في مشهد تكرره الأيام بانتظام مضطرد، تتمدد الدنيا بين مفصل المهد وبين استراحة العجز، ولأن الحياة مرحلة مؤقتة في قدرنا، نحن دائماً على سفر، غافلين عن إعداد العدة لمرسانا الأخير، وبين عربة الطفولة وعربة العجز تسلط عليك الحياة أسئلتها، وتيسر لك طرق الإجابات المزدحمة بالعقبات، طرقاً وعرة مكتظة بحفريات العلم والحب والعمل والمآزق الصحية والعسر المادي، وإن حالفك الجهد بتخطي مطبات امتحاناتها خرجت أخيراً بإجاباتها الدسمة.
في عربة الطفولة نراوغ ما شئنا، نتحرر من الذنوب ومن المسؤولية، يحملون عنا أخطاءنا، هناك من يجمل عيوبنا، يتبنى استهتارنا، يشبع فينا التهور والجرأة، يأخذ نصيبنا من الآثام. في الطفولة ننسج الأكاذيب، نلقي القبض على الخيال ونطلقه بعيداً كما شئنا، نتشرب الصور الجميلة للحياة كما يقدموها لنا، نملك الشجاعة على تقبلها كما يتسنى لنا نقدها دون حدود رقابية، للطفولة سحر الجرأة وألق الطيش.
في الكِبر، نتثاقل من أنفسنا، تلفنا الأسئلة، نتحول إلى علامة استفهام دائمة ونتقمص علامة التعجب، أهو سوء الحظ؟ أم رسالة إلهية؟ ثواب أم عقاب، أم هكذا ببساطة هي الحياة؟ حين تخطف الأيام منا المستقبل وتصبح مطالعة الماضي هوايتنا المفضلة، ننظر إلى ماضينا كقاضٍ أتقن فن المحاكمات، نرمي ثقل لومنا على أنفسنا، ونأخذ كل صغيرة مرت بنا مأخذ الاهتمام، ونعيش في دوامة الذكريات، كنا نملك قوة تزين جسدنا وذهننا، القوة وحدها تثلج العجز حتى لو جاءت على هيئة ذكرى.
أما بينهما، نتقصى أخبار الحياة، نقع في كمين نصبته لنا حين رضعنا جمالها وألقينا جانباً فخ الاحتمالات الذي تزودنا به الأيام، نجهل أن الحياة وظيفة نشغل بآدميتنا فيها أهم مناصب الخلق، نحاول تبييض صفحة العقبات الممزوجة بدهاليز المعضلات، نثب بشبابنا مسافات واسعة نحو غاياتنا، نعيش كأن الشباب دائم لا يعرف طريق الزوال، نضع على الهامش ما علمتنا إياه الطفولة ونستقبل مفاهيم جديدة لم يسبق لنا تجربتها، نندفع وراء أهدافنا ونذيب صخور الشكوك بقدراتنا، ندافع عن أحقيتنا بفردية تجاربنا لنكتب بمفرداتنا ما تعلمناه أثناء مراس الحياة الصعب ونتجاهل شقاء بعض أهل الخبرة، في الشباب ننكر أننا كنا أطفالاً، ولا نصدق أن الكبر سيحل ضيف أعمارنا يوماً، وكأننا في سبات شبابي لا يعرف اليقظة.
بكلمتين أوجزت معمرة تجاوزت المئة وعشر سنوات الحياة حين سألوها في برنامج وثائقي عن حياتها: “العمر غفلة”.
في إحدى المجمعات التجارية حيث كنت أنتظر ابني لينهي دراما البكاء وإلحاح المغريات المحيطة به هناك، كانت أم تجر عربة تحمل طفلها كمهد صغير، سعيدة لدورها الذي تمارسه ببالغ البهجة، تنظر إليه كوعد الحاضر لها بمستقبل خلاب، تستلهم من نظرات مولودها ما يذهل الأحلام في صفاء خيالها، خلفها على بعد خطوات فقط امرأة سبعينية تجر عربة رجل أعطته السنوات الكثير من الشيب وأغدقت عليه بخطوط التجاعيد، واختبرت صبره بصعوبة الحركة فجعلته قعيد كرسيه المتحرك، وسخط الإجهاد يبدو في عيني زوجته.
اختصر المشهد الحياة في لوحة عملية حية هي الأكثر عمقاً من لوحات فناني العالم مجتمعة، اختصر البداية والنهاية.
نحن الآن بين عربتي الحياة …