ظلال الوطن

كثيرون الذين يحركون الذكريات الراكدة في قاع العمر العكر، ويتصيدون هفوات القدر لتضاف إلى لائحة آلامهم، ويهيمون في شكوك فرضت نفسها عليهم في عصر غريب يتناقض فيه الانسان ووجوده على أرض ينتمي لها، أولئك العالقون في غربتهم بين الأوطان وأشباهها.

من مفارقات الغربة أنها تطرح أسئلتها المرهقة وتستجوب أبناءها عند كل ذكرى، تعيد لهم الوطن؛ صورةً ملحةً على هيئة حنين، ثم تغادر الذكرى كالسراب، حتى تعود ثانية، لتنتفض في الأذهان بمكر، وتغدو لعبة الأسئلة والشك ملهاة لا تنتهي.

ذات يوم همست لي سيدة سورية غادرت بلادها منذ سنوات، بأن كل ما تبقى لها من وطنها، خزانة أدراج خشبية يدوية الصنع، أصرت على نقلها معها حين غادرت حتى يبقى لها في منزلها الجديد أثر يرمز لوطنها، وحين بدأت الحرب أصبحت خزانة الأدراج، تمثالاً ترى فيه ما غفلت عن رؤيته حين كانت زيارة الوطن في متناول قرارها لكن انشغالاتها الكثيرة منعتها، وحين طال القصف مدينة تدمر، تعجبت كيف لم يتسن لها يوماً قطع المسافة من دمشق لتزور تدمر، بينما يحثها أرق الغربة اليوم على قطع المدن والبحار لتراها ولو مرة واحدة، بعد أن تصحو من ركامها. وليس ذلك بالغريب علينا فنحن اعتدنا أن تفقد الأشياء الممكنة أهميتها ثم تغدو على رأس أولوياتنا حين تغدو مستحيلة.

أصبحت الغربة كغيرها من المفاهيم تنتمي إلى مدارس ونظريات ككل شيء في حياتنا، وأضحت قابلة للتأويل وخاضعة للجدال، هناك من يقدمون أنفسهم أدلة على قدرة الانسان على بناء حياته من جديد بعيداً عن ترسبات وطن لم ينصفهم، ويعززون ثقتهم بألق الغربة وفرصها، مستعينين بنجاحات علماء وأدباء عرب وجدوا في غربتهم تربة صالحة لجهودهم ويجزمون بأن بقاءهم في أوطانهم ما كان ليعود عليهم بالنجاح والتقدير الذي وجدوه في بلاد استقبلت ابداعهم بأحضانها، وثرواتها وإمكاناتها. يتبعون بذلك قول أدونيس“كل سلطة لا يستطيع الإنسان في ظلها أن يبدع ويرفض بحرية انما هي عار الانسان وعار التاريخ”. وآخرون يغنون الوطن وينشدون الحنين كل صباح، فاتحين أذرعهم لذكراه ورائحته، يعيشون الوطن بتفاصيله على أرض غريبة، يتأملون من شرفة انتمائهم قول فكتور هوغو “كل صخرة هي حرف وكل بحيرة هي عبارة وكل مدينة هي وقفة، فوق كل مقطع وفوق كل صفحة لي هناك دائما شيء من ظلال السحب أو زبد البحر”.

رغم ما يحمله الوطن وغربته من تناقضات يبقى حالة نابضة تعيش فينا في بعده وقربه، وعلينا أن نقر بأن ما يتحمله الوطن من أزمات تجعله رقعة أرض غير ثابتة، ما الذي يمنعنا من زيارة مدننا تكريماً لوجودها وتاريخها ان أمكن، قبل أن تتحول أمنياتنا نحو زيارة خاطفة الى لحظة قد لا تعود، فالغربة ان كانت قسراً أو اختياراً، تحمّلنا طيف الوطن كظل دائم فمن كان باستطاعته زيارة مدن وقرى وطنه فليفعل، حتى لا تنطوي الرغبة طي منديل يرشح منه الندم، فاليوم حقيقة والغد وهم لا نملك فيه سوى الأمل.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s