أن تعيش معصوب العينين !

ليس غريباً أن يسكننا هاجس يجعلنا نُصاب بما يشبه العمى الإختياري، أو اختصار ما نريد أن نراه وما نرغب بأن نحجب عنه أنظارنا حتى لا يتحول كما هي طبيعة المخاوف إلى أفكار ملحّة، ومقلقة، ومفزعة في الوقت ذاته، فنقوم بتركيز جل إهتماماتنا إلى أمور صغيرة ترتبط بنا إلى حد كبير ولا تتعدى محيطاً ضيقاً جداً وملتصق بنا إلى أبعد الحدود، وذلك تجنباً لمعرفة ما يجري خارج تلك الدائرة المغلقة على أسرارها.

هناك موجات هروب كثيرة يمر بها الإنسان، أكثرها صعوبة تلك التي يقضي عمره بأكمله يعيش بها هرباً من واقع مظلم ليس به بصيص نور يسمح له بأن يتنقل بين ممرات الحياة الضيقة وحواجزها المبعثرة بين خطواته، تلك العتمة تمنعه من الوصول إلى مرسى آمن بروحه وجسده وبقايا آماله. 

قبل أسابيع ضجت المواقع الإخبارية والفنية بفيلم الإثارة (Bird Box)، وتناولت بتقاريرها فكرة الفيلم وتأثر المشاهدين بأحداثه ومدى نجاحه اعتماداً على تحطيمه أرقاماً قياسية فقد تجاوز عدد مشاهدات الفيلم  كما ذُكر خلال سبعة أيام فقط خمس وأربعون مليون مشاهدة، ثم عادت قنوات الأخبار لتحذِّر من انتشار تحدي (البيرد بوكس) المستوحى من قصة الفيلم ذاته، التحدي أدى إلى كوارث مذهلة، فليس من المعقول أن يسلم من يقود سيارته وهو معصوب العينين تقليداً لبطلة الفيلم التي كان عليها أن تبقى معصوبة العينين لتتجنب رؤية مخلوقات غريبة مجرد رؤيتها يعني الموت. في الفيلم أجبر الأبطال على أن يعصبوا أعينهم لتمسكهم بالحياة، وفي التحدي إختار أبطاله أن يعصبوا أعينهم هرباً من حياة فارغة دون أن يقيموا حسابات للموت أو خطره، تاركين أرواحهم تتأرجح بين احتمال البقاء أوالإندثار فالحياة تتساوى عندهم مع الموت، فلا شيء يعنيهم أكثر من تجربة مثيرة حتى ولو كانت تجربتهم الأخيرة.

من منا لم يعش معصوب الفكر هرباً من تحديات رمت بثقلها على كاهله أو ضائقة لحقت به، الحياة مليئة بأمثلة يمكنها أن  تكفي الكون حتى آخر أيامه دهشة وإثارة، فكرة الفيلم والتحدي الذي لحقه ليسا إلا واقع عُرض علينا عبر صور سينمائية، وإلا لما شعرنا يوماً بمدى قرب الأحداث منا، ورغم ذلك يتعدى الواقع ما يعجز الخيال عن تصوره أو نقله . 

كثيرون هم الذين يعصبون بصيرتهم فراراً من تحديات الحياة ومفرداتها عصية الفهم، بعضهم يبني لنفسه عالماً بعيداً عما يدور حوله ولا ينتمي إلا له، ويرفض أن يتصل مع مجريات الأحداث العامة في عالمنا الحقيقي، لكنه في النهاية يبنيه مع هم مثله، وأولئك في نهاية المطاف يتجاوز عددهم تلك الملايين التي شاهدت الفيلم خلال أسبوعه الأول، فهم يعصبون بصيرتهم كمنهج حياة. 

لهذا نجد طبقات إجتماعية لا يعنيها في حياتها اليومية ما آلت إليه الثورات العربية، أو مدى تأثير الأزمات الإقتصادية على دولنا، أو عدد شهداء فلسطين وسوريا، لا يعنيها حتى إن سقطت أنظمة أو تغيرت خارطة العالم، طالما أن ما يحدث لايؤثر على تفاصيل حياتها اليومية البسيطة أو المعقدة، فكل ما يحدث خارج حساباتها، فهي تسمع وترى وتتكلم لغتها وتمارس طقوسها الخاصة. ولنكن على الحياد، لا ألوم البعض فهم توصلوا إلى قناعة تامة بأنهم مهما فعلوا لن يغيروا هذا الضيم الذي يعيشه العالم وبأن السياسة والإقتصاد لغات لا يفهمها ولا يملك فك شيفراتها إلا أصحابها،  فما الذي يجعلهم يتحررون من عصابة أعينهم وهم إن رؤوا تلك الوحوش السياسية سيلحقهم الموت النفسي والإجتماعي إلى أن يصلهم الموت الجسدي. 

التحدي الذي يمكن أن نطلقه حقاً هل يمكن لأحدكم أن يعيش معصوب العينين حتى يعيش حياة هادئة كما يعيشها البعض، متناسياً ما تزفه قنوات الأخبار من دمار.