“صفعة القرن” (سجل أنا عربي)

بعض الأحداث الإجتماعية اليومية باتت تعكس مدى تأثير حالة التفكك العربي الجارف الذي وصلنا إليه،  لم يعد الأمر سياسياً البتة، وأقصد بذلك بأنه لم يعد يقتصر على قرارات الحكومات وتضحياتها المتكررة بنا، أو ذي صلة بدهاليز الحروب الإقتصادية، بل عُمِّم حتى لم يعد منا من يملك أضعف الإيمان  بما هو عربي. وتفشّت حالة من الفوضى الروحية والفكرية صارت تسود أذهان أفراد الشعوب العربية، حتى من يحاول التمرد على ذاته آملاً بأن يُبقي على جذورٍ عربية لا بد وأن يصيبه الشك بها، ولا يجني بعدها سوى القشور،  ذلك أننا جميعاً نعترف بأن الوضع الراهن خطِر إن لم يكن الأكثر خطورة عربياً وعالمياً وخطورته تتعدى عدد القتلى والشهداء وتتجاوز إحتلال سلطات حكوماتنا وأراضينا ونفطنا وثرواتنا على إختلافها، خطورته بإحتلالنا من الداخل، ذلك هو الإحتلال الذي يصعب بعدها مقاومته. تلك هي صفعة القرن الأقسى التي يمكن لأي عربي أن يتعرض لها، دون أن يدرك أو لنقل دون أن يعترف بأنه شريك بها وبأنها إرتدت عليه أخيراً وبشكل مهين. 

ما يثير الغرابة والتساؤل -وليس الدهشة فنحن فقدنا حتى دهشتنا منذ زمن بعيد- هو الإستسلام التام كظاهرة عامة أمام أي تحدٍ جديد يثار على أصعدة السياسة والإقتصاد والوطن والحقوق، وصلناإلى حافة الإفلاس والعجز في قدرتنا على المجابهة، لذا وبسبب تراكم الإنهزامات، صرنا نتقبّل مصائرنا وكأنها حتميّة لا دور لنا بها ولا نفع من التمرد عليها. 

ذُعرت مؤخراً من ردود أفعال البعض منذ الإعلان عن ورشة البحرين التي أقيمت الشهر الفائت، لما يُدعى مؤتمر السلام الإقتصادي، فالبعض وصل به اليأس لإنتظار حصته من هذا الإنتعاش الإقتصادي المزعوم وراح يتساءل عن الفرص التي يمكن أن تتاح عربياً، مشددين على أن “صفقة القرن” ستصل مبتغاها كاملاً شاؤوا أم أبوا ذلك، وآخرون إتخذوا الجانب السلبي الأكثر أماناً وهو الصمت، لعلهم فقط علّقوا على موجات الإحتجاج ضد صفقة بيعنا بأن الصفقات تتم حتى لو ثار من ثار أو سكن من سكن فالقرارات لم تعد بيد الشعوب!، وأما من تبقى وهم كثر بعزيمتهم وإن كانوا قلة بأعدادهم ثاروا رفضاً لها وما زالوا يرفضون كما هم دوماً. 

الأكثر جفافاً في هذا كله مزاعم أولئك الذين يدّعون بأنهم لا يحركون قلوبهم ولا ضمائرهم الساكنة بكون الأمر برمته شأن فلسطيني، متناسين بذلك كله أن صفقة القرن وجميع الإتفاقيات والمعاهدات السابقة لها منذ بداية الألم الفلسطيني إلى الآن تمت بمساهمة عربية وأن الإنقسام الهزلي الذي نعيشه يعود بالدرجة الأولى إلى إنتشار هذه النظريات وأصحابها، وحتى زمانياً فهي تعود إلى ما قبل الأزمة الفلسطينية طمعاً بعوائد الإنقسام من حيث السلطة والمال. الشأن المحلي لأي دولة عربية هو همّ عربي بالضرورة، أتذّكر الشاعر الفلسطيني الكبير “مريد البرغوثي” في أحد اللقاءات التلفزيونية بعد ثورة يناير بمصر، قال أن البعض كان ينتقد تدخله بالشأن المصري من خلال آرائه ومنشوراته، من قال بأنه حين يكون فلسطينياً فهو ليس مصري وما معنى أن يكون عربياً إذاً! كيف لا يكون مصرياً وهو الذي درس في جامعاتها وتزوج إحدى أروع بناتها وأجملهن لغة وروحاً، كيف لا وهو الذي أسند ظهره على حيطان سجونها يوماً. أليست له كعربي وطناً وحضناً كما هي للمصريين؟. المخجل في أمثلة كهذه تتعدى الإنتقاد بالتدخل بل يصبح العربي من أحد الأقطار العربية يتلذذ برمي تهم إلى  عربي من قطر آخر رداً على تدخله في شأنه الذي يعتبره خاصاً، تتعلق بالظروف التي يعيشها الآخر في بلده إقتصادياً إو إجتماعياً، يتهمون بعضهم في ظروف خلقتها سياسات الدول وقراراتها وكانوا جميعاً ضحاياها، الهذا الحد وصل  بهم الجهل؟! المشكلة أن هناك أحقاد خفية لا نعرف لمن نوجهها فنقوم بتوجيهها إلى من هم شركاء في اللغة وفي المصير والثقافة وفي الموت شئنا ذلك أم أبينا.

ولمن يرى الأمر يفوق الجهد الفردي أو الجماعي المحدود، لا بد لهم بأن يدركوا أن الجماعة تتكون من وحدة الأفراد وصلابة القلة أمام مواجهة التحديات قد تصنع المعجزات، السودان ضربت حتى الآن على الأقل مثلاً جميلاً في تماسك النخبة السياسية والمدنية التي قادت الحراك منذ بدايته أمام المجلس العسكري رغم المحاولات العديدة لشق تلك الوحدة، في وقت برهن الإنقسام على  دوره في فشل تحقيق أهداف الثورة في بلاد عربية أخرى. 

الحصار لم يعد على الأجساد والجيوب بل وصل إلى العقول والتفكير، المدون السعودي الذي لبّى دعوة العدو الإسرائيلي، كان مجرد طعم قذر رمت به السلطات الصهونية بدعوتها مجموعة من المدونين المطبِّعين لم يكن تكريماً لهم بل هم مجرد أدوات لفتنة بين الشعبين السعودي والفلسطيني، وفي النهاية كلا الشعبين كانا أذكى من أن يمثل هذا المطبع السخيف شعباً بأكمله، فهو لا يمثل السعوديين، بل نفسه وبضعة مطبعين أمثاله، ويكفيه ذلاً أن يكون أداة رخيصة ومستهلكة إلى أبعد الحدود في أيدي الإحتلال. هذا هو الدور الجلي والواضح الذي يعمل عليه الإحتلال الصهيوني، رمي بذور الفتنة وتسليح جيوش لمحاربة أخرى، وتأليب العرب على أنفسهم، فهو كيان قائم على أساس عنصري متين، فمتى سيأتي اليوم لنتحرر فكرياً من هذا كله؟. كل فتنة تنزل بقوم وراءها أحد أفراده وليس الطرف المقابل، وكل حرب هزمنا بها كانت بسبب خيانة من أهلها وليس قوة المحارب المضاد. 

قديماً وليس من مبدأ العودة إلى الماضي ولكنه مثل لا بد وأن نقف عنده لنستذكر أن القوة لطالما كانت في الوحدة، كان الخزر يخشون العرب كثيراً حتى قالوا “ كنا لا يُقرن بنا أحد حتى جاءت هذه “الأمة العربية” فصرنا لا نقوم لها”. ذلك هو الحال حين كنا “أمة” عربية.

أن تكون عربياً لا يعني أن تكون من إحدى الدول العربية بل أن تنتمي إليها جميعاً في قلبك على الأقل، أي أن تكون عربي اللسان والإيمان! وعلى ما يبدو أن الإيمان بعروبتنا الملتصقة بنا بحاجة إلى إعادة تأهيل، فالذين يعملون على تدميرنا لن يفلحوا إلا حين يقضون على آخر فتات عروبتنا ووحدتنا والتي لم يبق منها الكثير..