ليس غريباً أن يصبح المبدع سجين إبداعه، فالإبداع يشبه الكثير من القضايا الإنسانية التي تتحدّى ما تواجهه يومياً من ضغوطات وحواجز يفوق إجتيازها، إجتياز الحواجز الأمنية المتشددة في أكثر البلدان إنتشاراً للفوضى وإنعداماً للأمن، كون المبدع يعاني من تلاشي الأمان في عالم أصبح فيه الإبداع فضفاضاً مثل بالون عملاق يطير بحمولة غير مفرزة، مختلطة بهواء غير نقي، ويمتلئ بإبداع مشتبه به، باستثناء المبدعين الذين يعيشون أوفياء لإبداعهم الحقيقي المغروس فيهم حتى اللحظة الأخيرة، أولئك الذين يسكنهم هاجس الإبداع ولا يبحثون عن صيغة رثّة مهما كان شكلها أو قيمتها في هواء البالون العملاق الملوّث.
لا يخفى على أحد أن المجتمع بتكوينه الحالي ،لا يلتفت إلى الإبداع ولا إلى المبدعين على أنهم نواة جِنَان لو استحق المبدع نصيبه من الرعاية والدعم، بل قد تجد إستخفافاً بقيمة المبدع ودوره الإبداعي وأثره على البيئة المحيطة به وعلى مجتمعه وربما العالم بأسره إن إستطاع أن يَخرج بانتاجه الإبداعي من دائرة محيطه المحدودة أو كان بإمكانه التفرّغ لرعايته بنفسه وتطويره. يأخذني ذلك إلى دراسات أُثيرت في علم الجريمة تقول بأن سلوك الإنسان الإجرامي يعود إلى خلل جيني أو نفسي، فتجد العلوم تتجه إلى حلّ لغز الجين المجرم كمحاولة لعلاج الظاهرة والحد من نتائجها على أنها خلل يؤثر بشكل كبير على الدول والمجتمعات متناسين في تلك الدراسة الأسباب الإقتصادية والظروف الإجتماعية والإحباطات المتكررة للإنسان التي تعزز ظهور وعمل ذلك الجين المسؤول عن الجريمة، والأهم أن هناك جين آخر يستحق فهمه وتقديره وهو جين الإبداع ، فلماذا لا يهتم المجتمع بالإبداع كوسيلة لترويض السلوك البشري والتعامل معه على أنه حالة خاصة ملحة بقدر كبير بالنسبة إلى حامل الجين الإبداعي ووارثه وحاضنه، فالإبداع حالة لا يمكن السيطرة عليها أو قولبتها أو حتى نسيانها، وإهمالها له تداعيات سلبية كثيرة، ولا يعني ذلك تشبيه الإبداع بالجريمة ولكن الجريمة بمفهومها السوداوي تقع أيضاً عند التخلي عن الإبداع والمبدعين، ذلك ما يحدث حين ينصب الإهتمام على النتائج مهملين الأسباب.
الكثيرون يتعاملون مع الفنون الإبداعية على أنها هامش ثانوي لا يُلتفَت إليه إلا حين تسمح له الظروف بأن يفرض نفسه، كما نجد المبدع يصطدم بعوائقه الخاصة ولعل أهمها العائق المادي فيُجبر على العمل في مجال مختلف أو حتى مضاد لإبداعه وهنا قد يطوي صفحة إبداعه إلى إشعار آخر أو قد يمزقها بلا عودة، وحتى من يسعفه الحظ ويجد فرصة عمل تتفق مع شغفه، يواجه عراقيل أخرى وقيود تحدّه، مثل القوانين الإجتماعية غير المرنة، أو منافسات سلطوية غير منصفة، أو يقع تحت رحمة بيروقراطية المؤسسات، وبالتأكيد لا يقتصر الإبداع على الفنون الذهنية والفكرية والعلمية، فكل شخص لديه إبداعه الخاص، ذلك ما دفع إحدى الشركات العالمية إلى دراسة التفاوت بين فرق العمل لديها حين لاحظت أن إحدى فرق العمل لديه طاقة إبداعية وإنتاجية ملهمة بينما فريق العمل الآخر في المؤسسة ذاتها وله نفس الظروف المقدمة من المؤسسة، أقل إنتاجية وإبداعاً، وإتضح أن الفريق المبدع يتشارك جميع أعضائه في الآراء والمهام من باب إحترام كل عضو من أعضاء الفريق ويتم تقدير وتبني الأراء والمبادرات المقدمة منهم، وحين إجتمع إبداع الفريق إنعكس بالتالي على أدائه بينما لم يكن ذلك هو الحال لدى الفريق الآخر الذي إحتكر فيه المدراء الرأي وأصبح الباقون مجرد منفّذين لقرارات الغير ليس أكثر.
أعتقد بأننا نتفق على أن هذه الصورة لا تقتصر على إدارة المؤسسات بل جميع الهيئات الفكرية والأدبية والعلمية، وبأن حالة الفريق الثاني هي الأكثر إنتشاراً، ذلك يضع بلا شك المبدعين في عراك مع ذواتهم وإبداعهم ومحيطهم، لذا أصبحنا نحارب ونقاتل من أجل الحصول على فسحة ضيقة للأحلام أضيق بكثير مما نحلم لكنها المساحة الوحيدة المسموح لنا بها هذا إن إستطعنا حيازتها.
من الملاحظ أيضاً وهو مما يعكر صفو الإبداع، أن الإبداع، والريادة، والتميز، والتفوق، جميعها كمفاهيم أصبحت تحتمل التأويل وتشمل من يملك ذلك الجين المبدع وغيره على حد سواء، لعل الإعلام الرقمي ساعد في ذلك فلم يعد المحتوى ذا أهمية بقدر الصورة التي حين تأخذ نصيبها من الترويج تستحوث على الإهتمام بمنأى عن قيمة الإبداع وأهمية دعمه وتوجيهه. بعض المبدعين يركبون الموجة محاولين الموازنة بين نتاجهم القيّم وما يطلبه الجمهور، والبعض يبقى ساكناً لا يقوى على مجابهة التغيّر ويعتبره ضد الإبداع وضده شخصياً ويسرد لك قائمة من الحجج المقنعة بأن الحالة السائدة لا تلائمه ويدخل في موجة مقاومة لهذا التغيّر العام.
شي آخر يواجهه المبدع، وهو المبدع الآخر، نعم عالم الإبداع على إتساعه وإختلافه مليئ بالتناقضات وبعيد جداً عن المثالية، يد المبدع الخبير قد لا تمتد لمساعدة مبدع يحاول شق الطريق للتعريف بمشروعه الإبداعي ويجهل قنوات نشره وسبل تطويره، تماماً ككل المناصب والكراسي المتنازع عليها في هذا العالم، بعض أصحاب الخبرات يحاولون الحفاظ على أمكنة بطبيعتها تحتمل وجود الجميع لكنهم يستأثرون البقاء فيها وحدهم.
الكثير من الإبداع تلاشى في مهب الظروف أو أصبح ضئيلاً عاجزاً عن إخراج ذاته، لأن المبدع إحترق من الداخل وطُعن في إبداعه وأضحى يعاني من سكرات الإبداع..
ويبقى السؤال..
أخلقنا ليندثر الإبداع الذي يحرك أرواحنا ويغذِّيها بالأمل؟