كتاباتي

مصاصو الأحلام

صورتها تحرك أوتار مخيلتي لتحضر بقوة في ذاكرتي، وكلمات جبران حاضرة أيضاً لمناسبتها لتلك الذاكرة؛ “ازرع أين شئت بالأرض تجد كنزاً، ولكن عليك أن تزرع بإيمان الفلاح”.
لعل أكبر الزلازل المدمرة تحدث داخلنا. رأيت يومها ظل فستانها الأسود الطويل خلفها يحاول إخفاء الدمار، تطوي سنوات عمرها وإرهاقها تحت ظلها وتمشي بثقة وابتسامة لعلها الأندر منذ عرفتها.
كانت “نينا” تدير أكاديمية لتعليم اللغات، لم يُثْنِ أحد يوماً على إدارتها، وكانت على خلاف دائم مع الجميع لسوء إدارتها، لكنْ لخبرتها الطويلة وعمرها ولغتها الأجنبية القوية حصلت على منصبها ولقبها المهني، وإغراء المردود المادي كبّل طريق حياتها ليأخذ منحًى إدارياً بدلاً من التدريس الذي كانت دائماً تشعر من خلاله بإنسانيتها وقدرتها اللامتناهية على العطاء، فالتدريس هو الدور الوحيد الذي تتقنه.
حين حصل نقص في الهيكل الأكاديمي بسبب تغيب أحد المدرسين، كان عليها أن تغطي ذلك النقص وتقوم هي بالتدريس. رأيتها حين عودتها من إحدى المحاضرات مسرعة لسبب مجهول، ما زالت الابتسامة النادرة تقف متعالية فوق شفتيها يلونها التحدي، لم أعلم إن كانت هذه الابتسامة تتحدانا أم تتحدى “نينا” نفسها، أم تراهن كم ستبقى بين شفتيها، أم أنها ستسجل رقماً قياسياً غير معهود! وحين تكشّف سبب سرعتها عرفت أنها استقالت وغادرت تبحث عن كنزها الذي دفنته الحياة لتزرعه بإيمانها الذي أعاده من جديد.
ترك شارلي شابلن أثراً بفنه وبمقولته؛ “لا يوجد شيء دائم في هذه الحياة، ولا حتى مشاكلنا”، لكني أخالفه بعض الشيء، فأنا أجد شغف الأحلام عند البعض دائمًا لا يموت، أما فوضى الأحلام فتحتاج لمن يعيد تهذيبها.
مثال جميل آخر لا يُنسى لامرأة قاومت مصاصي الأحلام الذين يضعون العقبات أمامنا لنتنحى لهم عن رغبات تسكننا، التقيت بها في يوم المرأة، ولا أعلم إن كانت صدفة أن ألتقي بها في هذا اليوم بالتحديد، وكأنها ستصبح رمزاً أذكره في هذا اليوم من كل عام. كنت أنتظر دوري في معهد الموسيقى، أشعر ببعض الخجل لأني بدأت بتعلم الموسيقى في عمري هذا، استمعت لعزفها خلال انتظاري، عزفها مبتدأ إلا أنه أكثر جودة واتقاناً من عزفي، وحين انتهت فاجئني عمرها، ابتسامة التحدي ذاتها التي كانت تزين وجه “نينا” من قبل تجلس بكبرياء على شفتي هذه المرأة السبعينية الجميلة، خجلت من جديد من نفسي، خجلت من خجلي، تلك المرأة التي لم أتشرف بمعرفة اسمها جعلتني أشعر أن الشباب يبدأ في السبعين، عيناها قالت لي: “أجمل ما في البدايات أنها غير مقيدة بزمن، فقد تكون أي لحظة هي البداية”.
كل حلم يمكن أن يصبح أرقاً يلاحقنا، بعضنا استسلم لمصاصي الأحلام الذين يقابلون أفكارنا بالعراقيل، لديهم ما يكفي من أسباب لتثقل كاهل أحلامنا وترهقها، ينتشرون بيننا كالوباء حين يستوطن الوهم أدمغتنا، فالبعض ينساقون لهم، يسمعون حياتهم من أفواههم ودكاكين أفكارهم القديمة، وكلما أراد الحنين إلى أحلامهم السابقة أن يلحق بأمنية وجد دربه مسدوداً، فبعض الأمنيات ليست إلا أرجوحة في الوقت الضائع.
حين يستوي الحلم على أريكة الراحة يندثر، فمن يزرع حلماً يحصده …
هي الأحلام بعضها مُعَجَّل وأغلبها مؤجل …
لحلمك عليك حق …
يعيش حلمك ما دمت أنت حياً…
لو تأثر العظماء والعلماء والأدباء بمصاصي الأحلام، لكنا خسرنا العلم والأدب وأصبحنا نعيش في صحراء بشرية دون حضارة.
مصاصو الأحلام ينشرون السراب، لذلك أردت دوماً من الجنون أن يكون شريكي في أجمل لحظات اليقين… وكذلك عليك أن تكون …
فأنت حلم ثم بريق ثم حقيقة …

جلنار

كتاباتي

بانتظار الشوكولاتة

بانتظار الشوكولاتة أنجزت الكثير…

في البدء قررت أن أتجول في الأفكار، وأخيط خيوط الملل، وأسبح في الظلام، فقد وصلت باكرًا… كنت في فيغاس مدينة التناقض والمباهج اللامتناهية برفقة زوجي في زيارة عمل، ولأني كما تعلمون أبدأ يومي برائحة القهوة ومذاقها الصباحي المنتظر، رحت أبحث عنها في ساعة مبكرة من الصباح كمن يمشط الشوارع بخطوات دقيقة لتستعد لاستقبال المارين بها بعدي، ومن عاداتي أيضاً أن يرافق قهوتي الصباحية قطعة صغيرة من الشوكولاتة، صدفة وجدت ضالتي، متجرًا يلبي رغبة مذاقي المزاجيّ المتطلب. لم أتوقع أن المدينة التي لا تنام لا تستيقظ محالها باكرًا مثلي، وجدته مغلقًا، وبذريعة أن اللذة لا تكتمل إلا باكتمال تفاصيلها، انتظرت… جاذبية المكان وهدير الموسيقى واستعداد العاملين في المحلات حولي لبداية نهارهم أضاف لانتظاري متعة لا تنسى.

جلست برفقة كوب القهوة الورقي الساخن أحتضن سخونته علها تنتظر معي قطعة الشوكولاتة، بينما كانت أنظار المارين والجالسين تنجذب قسرًا نحو جمال فتاة طويلة دون مساعدة الكعوب العالية، بدا لي أنها تعمل في أحد المحلات المقابلة، تحاول رفع الباب الحديدي لذلك المتجر، كان طولها يتناسب عكسيًا مع طول فستانها، مما جعل الأنظار معلقة عليه أكثر منها، هم تابعوا تحركاتها وأنا تابعت نظراتهم.

رغم أن الملل ما كان ليجد أي سبيل للوصول إلي في شارع مليء بالغرائب كالذي بفيغاس، إلا أني رحت بتأنٍ لافت وبدقة أرد على عدة رسائل هامة في بريدي الإلكتروني كانت عالقة منذ يومين وتنتظر مني دقائق كهذه، ثم دونت بعض الأفكار التي كانت تشغلني ولم يكن باستطاعتي نقل إحساسي بها عبر الكلمات، ووجدتني على بعد كلمات من إنهاء مسودة مقال بدأت كتابته ثم انشغلت. فجأة، أيقظ شرودي المليء بالإنتاجية عشر رجال في زي البحارة اصطفوا متشابكي الأيدي وينشدون بحماسة عالية وكأنهم ينشدون النشيد الوطني لدولة العمل التي تنتمي إليها ساعات يومهم القادمة، تفرقوا وأخذ كل منهم مكانه، هكذا يبدؤون يومهم، كانوا ينظمون جولات في قارب صغير، Gondola كما يسمونها، حين انتهوا من نشيدهم وجدت محل الشوكولاتة خلفهم قد بدأ نهاره هو الآخر، توجهت إليه، اشتريتها سوداء محشوة بحبات اللوز، تناولت القليل منها مع ما تبقى من قهوتي التي أصبحت باردة، خمس عشرة دقيقة كانت كافية لأنجز الكثير من مهام بدت صغيرة رغم أهميتها وتراكمت حتى تعاجزت عنها، قد تكون لعنة الانتظار هبة أحيانًا.

تلك الأفكار ثمرة وقتي القليل، وما زلنا نلوم الوقت لا أنفسنا… جميل أن ننحني أمام هيبة الوقت، والأجمل أن نترفع عن إهداره لنملك مزيدًا من العمر، فليس وحيدًا من أدار زمانه.

فكرت في همّ صديقتي الدائم في مقارنة نفسها بزوجها الذي لمع جهده ونجاحه أكثر منها، لأنها لم تستطع يومًا أن تدير وقتها بينما كان هو كما تلقبه وتعترف “ملك الوقت”، رغم أنهما يحملان نفس الشهادة العلمية وأتيحت لهما ذات الفرص، لكن الوقت كان وما زال عدوها الذي جنى على أحلامها. وتذكرتُ أيقونات النجاح التي نتتبع أخبارها وملايينها، فوقتها توأم النجاح، لأن من نازل الوقت وانتصر عليه فقد أدرك عمره وزمانه.

كيف يزهد البعض في كل شيء بينما طائي كرمهم يسمح لهم إسراف ساعات يوميًا أمام التلفاز، يفيض بهم الفضول لمعرفة قصص وهمية ويضعون قصص حياتهم وتفاصيلها جانبًا ثم يجدون الوقت حجتهم المقنعة حين لا ينجزون ما أرادوا، إن كانت الرياح تسير كما تشتهي أقدارنا لا الأمنيات، فلا بأس من تجديف الأماني لزورق حياتنا، فقد يتغير مسارها.

بالوهم نحن مسكونون، فحرب الزمن مفخخة بالكسل، هل تغفر لنا محكمة الأحلام إسرافنا في الوقت وترفنا في طلب المزيد، كم خططنا ونحن على يقين أنها خطط لن ترى نور الوجود ما دمنا لم نسع إليها بجهدنا ووقتنا.

هو الوقت، للبعض هاجس مقلق بانتظام، وللبعض حلم عابر بفكرة وحنين لماضٍ لن يعود، وللبعض كأن شيئًا لم يكن، هو خارج نطاق تحركات أفكارهم اليومية.

تمضي الحياة سريعًا وكأن حلمًا لم يزر يومًا أرواحنا، لا تعكروا صفو أمنياتكم بل حققوا ما تيسر منها قبل أن تنكس أعلام العمر، فحين يغادرنا الزمن يحفر آثار وجوده السابق بعمق، فأخطاء الزمن لا تغتفر وتقاس بأعمارنا، وكأنه اختبار دائم يرافق أيامنا.

جلنار

كتاباتي

لا ترتبطي برجل

حرية المرأة قضت في كمين الأوهام، فبعض الأمنيات النسائية ليست إلا اقتباسات موروثة، والمثير هو كيف تختزل المرأة كل مستقبلها برجل لا بنفسها، وتسرف بالأمل وبالانتظار!

تعتقد الحرية أن النساء مثلها كونها أنثى، بينما تباغتها المرأة وتبحث دون أن تدري عن قيود متراكمة لا مناص من فكها على غرار من سبقنها، تتمثل لها الحياة، كل الحياة، على هيئة رجل، لأن من طبع الأحلام أن تتغذى على الأمنيات.

تغافل الأنثى موطن الحرية لتلحق وهم الحياة الأزلي، فقد علموها كيف تحتمي بظل رجل، ونسوا أن يعلموها كيف يكون الرجال، ولَيْتَهُم علموها كيف تكون الحياة حين ترحل الأوهام بعيدا عن متاجر الخيال، لوعلموها كيف تلتقي بنفسها أولاً قبل انتظار فارس يحملها إلى غيب مجهول.

ولأنك تحتاجين مزيداً من الحرية ومزيداً من الوجود، ولأنك في رغبة لامتناهية للمزيد منك، تريدين رجلاً معك لا خلفك على جسر الوصول. بعضهن مازلن ينظرن إلى شرفات الحياة المرصوفة بأمل من حجارة يقطر ترسبات أفكار بالية، غادرها النضوج كزهرة ذابلة حزناًعلى ريحان يافع غادر حدائق أيامها.

في ظل حروب عالمنا الباردة والحارقة، المستترة والظاهرة، وفنون الدنيا والدمار، والتطور العلمي السريع، ورغم الزمن والمحن، وهجر الرؤى والأمل، ما زال الرجل دعاء الأمهات لبناتهن، ومازال يفوت القطار، والحزن يلاحق من لم تتعثر به وغدرها حظها الأشعث ورماه القدر لأخرى، وتبقى هي تنتظر رجلا ليصبح زوجاً لتملك حياة، لتكون أقل غربة معه في عالم خلقت وكبرت به، لأن المرأة لهم مفعول به وليست فاعلا، وهي تعيد ترتيب الوجود، والمستقبل يزحف إلى الوراء ككل مستقبل مبني على ما قال الماضي لجيل أو لأجيال سابقة، جيل غارق بمفاهيم يمليها قاموس عبودية المجتمع المتجدد، وتجهل أن تلك الأفكار هي جنين قابل للتشكل أو للاندثار أو للانهيار.

تنبهتُ رغم أني لم أغفل يوماً عن الأمر، إلى أن الرجل والولد وكل ما يرتبط بهما هو كل ما يشغل حياة بعض النساء، فوجدت نفسي بين ذراعيّ الأفكار أغازل من تَنَحَّت عن منصب الباحثة عن رجل، للتفرغ للبحث عن نفسها.

تذكري أن طنين الحرية ينبع من مرسى الحلم، وأن الحظ لا يحتاج إلى رجال، يحتاجك أنتِ، حظك صناعة دقيقة، وحدك تمليكن حرفية تلك الصناعة، لأن الأحلام لا تتجدد وحدها، الخيبات هي التي تتجدد.

الارتباط برجل ليس جنساً أو ولداً أو خاتماً أو صوراً تستعرضينها أمام صديقاتك، الارتباط برجل يعني حياة، فهل تملكين جرأة اختيار حياتك القادمة.

لا ترتبطي برجل… ارتبطي بنفسك …

لا ترتبطي برجل بل ارتبطي بأحلامك إن التقت ذلك الرجل، وإن كانت الأمومة تؤرقك فأحسني اختيار أب لأبنائك… فهو لم ينتظرك يوماً ليبدأ حياته، بل ليكملها معك …

ارتبطي بشريك لا برجل… بحبيب يراك كمرآتك الواثقة، كروح تقطن عينيك …

فالأمان أن تكوني “أنتِ”…

 

جلنار

كتاباتي

أنت الآن إلى نفسك أقرب

إن رسمت يوماً ظل جسدك على الأرض بعصا الأمنيات، فأنت الآن إلى أمنيتك أقرب… وإن زرت يوماً قاع بئر التجربة الموحش وعدت بعدها إلى السطح متناسياً صدى الألم في روحك فأنت إلى نفسك أقرب…

نحن على بعد أمنية من أنفسنا…

درس المحلل النفسي “جاك لاكان” لحظة لقاء الطفل بصورته أمام المرآة على أنها لحظة زمنية دقيقة للغاية، حيث يلتقي الطفل ما هو أبعد من صورته الجسدية ويدرك أن صورته في المرآة ليست صورته النهائية، وينظر إلى جسده بشيء من العدائية متخطياً ضعفه ومحدودية حركته ومشيه البطيء، وكأن بصيرته المتيقظة أكثر نمواً من جسده، ليرى في عمق نفسه صورته الحقيقية، وكأن ذاك الجسد الصغير ليس إلا وهماً يراه الآخرون من حوله، أما هو فيرى القوة الكامنة فيه وتكامل شخصه القادم مع الأيام، يرى صورته بلمحة مستقبلية حيث ينمو فيه الأمل والخيال رغم كل التناقض. إرادتنا للتغيير تتجلى فينا منذ تلك اللحظة، تذّكر حين تنظر إلى المرآة أن تتحدث إليها على سجيتك، فالذي أمامك ذاتك وليس جسدك.

تلك المرآة قِبلة النفس الأولى…

لطالما اختلفت الصورة التي نرى فيها أنفسنا عن الصورة التى يرانا بها غيرنا، في كل شخص نلقاه شخص آخر وحده يعرف من يكون، حياتنا تبدأ بحلم يسكن جوفنا وتنتهي بتحقيقه، نتربص بأمنياتنا من خلال المرآة ذاتها ولكن على هيئة مغايرة، أتمنيتَ أن تكون كذلك القوي القادر على إبداء رأيه دون لعثمة التردد، الذي يجمع القوة والمال والحكمة؟ أو تمنيتِ أن تكوني كتلك الجريئة التي تفرض حضورها بكلماتها وآرائها أينما حلت؟ أو كتلك الأم، أو المبدع الذي اختزل العالم ببضع ألوان؟ نحن في الحقيقة لا نتمنى أن نكون كغيرنا، وإعجابنا ليس بهم بل بأنفسنا التي رأيناها من خلالهم ونسعى لأن نكون على تلك الهيئة، لطالما شعرنا بأن أبطال الروايات والأفلام تشبهنا ولم يلحظ أحد من حولنا ذلك الشبه، لأننا كنّا أبعد عن أنفسنا المنحوتة الآن بالنضج والملتهبة بآثار التجارب والأيام، والتي أهدتنا أخيراً النسخة الأفضل منا.

أذكر حين التقيت حديثاً بزميلتي في الدراسة قبل خمس عشرة عاماً، قالت وهي تودعني: لم نتغير كثيراً لكننا الآن أجمل، لعلها أرادت أن تقول نحن الآن أقرب إلى شخصياتنا الحقيقية.

تصل أحلامنا سن اليأس قبل النضوج، لأننا اعتدنا البحث بعيداً عن أقرب الأشياء إلينا، فلا تأتمن أحداً على أحلامك وارجع إلى مرآتك الداخلية. حتى البوذية… العقيدة ذات العدد الكبير من الأتباع، والتي تأثر بها وبتعاليمها الكثير حتى وإن لم يعتنقوها كديانة، فإن جلّ ما دعت إليه هو التأمل للوصول للنفس واستغراق التفكير، وهو التعبد حسب تعاليمهم حتى يُدرك الإنسان طبيعة بوذا الكامنة في نفسه، وبوذا يعني “الرجل المتيقظ”، تاركاً كل ما حمل من مفاهيم وقيود وقناعات، عليه فقط أن يجد نفسه، يقول الماستر بيشينغ “بيتك الثمين هو نفسك، فإن به كل ما تحتاج”.

نفسك في الطريق المقابل لك، تمضي للقائها دون موعد، فالعمر استثمار رأس ماله التجربة، والأيام هي الأرجل السحرية التي تحملكم إلى أنفسكم التي تحلمون.

أنت لنفسك إن كنت تدركها، وكل يوم إلى نفسك أنت أقرب…

شكراً لذاتنا، صورتنا الأقرب إلى الحقيقة، شكراً لذاتنا وعد صورة المرآة الصادق فينا، ذاتنا حقيقتنا الواضحة في منتديات الوهم إن كانت بصيرتنا قادرة على رؤيتها.

وأنا حين أدون فكرة أكون إلى نفسي اقرب…

أما إن كنت تلعن الندى الذي غادر خلف شعاع الشمس بعد أن انتظرك في أحلك ساعات الليل، فأنت الآن إلى نفسك أبعد…

والبعض إلى سراب النفس أقرب…

جلنار

كتاباتي

سيلفي

اكتفينا ذاتياً، فهنيئاً لنا!

بمصادفة تكثر فيها الاحتمالات، استوردنا اكتفاءنا الذاتي كباقي ما استوردناه، وتخلصنا بجدارةِ الزمن والتطور من أي تبعية قد تعكر صفو لقاء أنفسنا بصورها…

في طريقي إلى أحد المطاعم للقاء صديقتي لنسرق ساعتين من الثرثرة والأخبار الخفيفة والذكريات، تأخرت قليلاً، ليس لأني في مدينة أرصفتها طاردة للمشاة لا تعترف بحقوقهم فتوجب عليك التنقل بسيارة لتقطع مسافات بسيطة، ولا لأن الشوارع المزدحمة بناسها وسياراتها تخرق كل أنظمة المرور، ولا لازدحام أماكن الاصطفاف الذي بات أرقاً حقيقياً لكل من يغادر منزله، ولكني حين ألقيت القبض أخيراً على موقف لسيارتي، وجب علي الانتظار طويلاً، حتى ينهي شاب عشريني وحيد داخل سيارته التي يتجاوز سعرها المئة ألف دولار بباب واحد ليكتمل مظهر أناقته الشبابية، انتظرته لينهي ابتسامته أمام صورة “سيلفي”.

ولأن “العزلة لا تملك تاريخاً ” بحسب الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، وجدتني أتنقل في أغوار الأفكار، أداعب مللي، فلا أدري كم تساوي الوحدة التي أمضاها العظماء الخالدون من الأدباء في بورصة الأيام المهدورة الآن، لكن إنتاجهم الأدبي أو الفلسفي كان ومازال الشاهد الأقوى على فن الوحدة والعزلة. السيلفي ظاهرة قديمة، قديماً كان يأبى علماء الدين والكون والأدب والبحوث العلمية والفلاسفة، وصفة الإجابات الجاهزة، يرحلون إلى عزلتهم، ويسافرون “سيلفي” أي وحدهم وبأنفسهم بحثاً عما يشفي عقولاً في شوق إلى إجابات تفضي غالباً لمزيد من البحث.

يقول إبراهيم الكوني “تقوقعت حول نفسي لأني وجدت أن العزلة أحسن سلاح للدفاع عن النفس”، هو الذي اختار عزلته ليهدينا أجمل الكتب، ويهديه العالم أهم الجوائز الأدبية. صوت نيتشه على لسان زرادتشت جاءني ليبدد غيمة انتظاري “طويلاً بقيت قابعاً في وحدتي حتى أنني نسيت الصمت… لست الفم الذي يصلح لهذه الآذان”، وجاد بعد دهر من الوحدة والانعزال بحكمة وفلسفة ما زالت عصية على الفهم ومحلاً للجدل، ذلك أن الوحدة غالباً ما كانت شرطاً أساسياً للإبداع. كذلك هم الأنبياء في وحدتهم، وهل الأديان سوى تدفق صوت الصمت الوحيد بعد عزلته نحو البشر.

أما السيلفي الحديثة وحدة قسرية نفرضها على أنفسنا، واكتفاء نتاجه صورة، لسنا بحاجة لأحد، السؤال مذلة، نحن نلتقط الصورة، نرى أنفسنا، نصورها، نبتسم أو نضحك وحدنا، نعيش اللحظة والذكرى والصورة معاً، وحدة من نوع آخر، وحدة صحراوية جافة، عزلة، زاهدون في احتياجنا للآخر، واجتماعياً ننتقل إلى المثوى الأخير بصمت نروي صور حياتنا، ضجيج صامت حولنا، لو نستعيد الضجيج المليء بالضجيج! ربما نسيِتْ هذه الوحدة، بحلّة الرماد الجديدة، أن الوحدة هي انعزال عن الجماعة، فالآخر حاضر حتى بها، لعل هذا ما عناه تشي غيفارا حين قال “العز في العزلة، لكن لابد للناس من الناس”. هناك برد لا دفء منه، كيف نبني عظام أيامنا القادمة من ثدي الوحدة؟!

منذ فترة وجيزة تصدَّر خبر “رجل يأخذ سيلفي أثناء أدائه الصلاة” قائمة الأخبار الأكثر قراءة وتداولاً، السيلفي أصبح حاضراً في صلاتنا، الخبر كان الأكثر قراءة والأول على أخبار غزة وسوريا والعراق، بل وتفوق على خبر الاتفاق النووي التاريخي بين أميركا وإيران، كذلك هي أخبار سيلفي المشاهير وخلفهم كلابهم وقصورهم.

في كاليفورنيا مدينة الشاطئ الملوّن، منذ عام تقريباً، أذكر أن رجلاً وامرأة أوروبيين في الستين من العمر، بدا لي أنهما جاءا ليحتفلا بعيد زواجهما في مدينة لا تعرف المستحيل، هي التي حولت مكب نفاياتها إلى وجهة سياحية، وفي ركن قريب اجتمع مجموعة أصدقاء يتأملون زجاج الشاطئ المنثور وألوانه الكرستالية المتوهجة لهيباً وجمالاً، سألاهم أن يساعدوهما بالتقاط صورة، يبدو أن اللغة كانت جسر عبور فرحتهم حين عرفوا أنهم من البلد ذاتها، أخذوا لهم مجموعة صور، وأكملوا بعدها جميعهم الطريق معاً.

سؤالان أذكر أني ما عرفت لهما جواب، هل كان أي منا ستطغى عليه ذات السعادة لو التقى بعربي في بلد غريب، نحن الغائبون في وطن حاضر، وماذا لو فعل الزوجان العكس وتبنيّا موجة السيلفي؟

وسيلفي..

أقصد… وحدي

أكملت طريقي للقاء صديقتي، مشيت قليلاً لأصل إليها، ومررت بمشاهد “سيلفية” كثيرة في طريقي، وكأني عبرت مشهداً مسرحياً صامتاً، ربما لأن الصباح بطبعه صامت، ولأن السلفي تحتاج لصمت أيضاً، لقد حلت الوحدة فلتغفروا لنا وحدتنا، لقد مات الضجيج، فلترحم أصواتكم ضجيجنا.

في نهاية جلستنا أردت وصديقتي أن نحفظ لقاءنا بصورة، طلبنا من سيدة تجلس مع طفلتها أن تساعدنا، عرفنا أنها من الجزائر في زيارة عمل قصيرة، كان اسمها “نزيهة”، لكل امرئ من اسمه نصيب، وكم أحسنت الجزائر في تسمية أبنائها، ولمّت الصورة شمل عروبتنا، فقد تم اعتقال تلك اللحظة بوحدة عربية في مساحة لا تتجاوز الخمسة أمتار، ضحكنا بمزيج دقيق متناسق من الخبث والحزن والحسرة، وتمردنا على الثورة العكسية الجديدة التي تدعى “سيلفي”.

نسيت أن أقول لكم أني كنت أخبئ في حقيبتي عصا السيلفي.. فما قيمة القرار إن لم يكن أمامك خيار…

جلنار

كتاباتي

متلازمة القهوة

 في حضنها أتنفس اليقظة التي ترقص فوق شاطئ سوادها وتنثر الشروق على أكتاف عشاقها، أنتظر رائحتها بفيض اللهفة وأصحو استجابة لندائها؛ لأنها البداية، مَنْ غيرها يستقبل معي الشمس، والصباح ما كان ليبلغني لولا رائحتها؟

في جلسة مليئة بقصص القهوة جمعتني بأصدقائي، تبين لي كم نشبه بعضنا حين يجمعنا حبها، فمنذ أن حضرَت وسبقتها رائحتها، انصرفنا إلى الحديث عنها، ننام لأنها تنتظرنا، فالنوم أجمل حين تلحقه رشفة منها، رشفة الحياة، كرقصة تهز الجفون، وحدها تطرق باب وسائدنا وتأخذنا من أيدينا إلى الجديد، نتسلل إلى الصباح لنعدها، فأن تعدها صباحًا لنفسك يعني أن تعد الحياة، أن تفتح الباب للبداية، أن تأتيك صفحات الأسرار عبر الغيوم البيضاء المتصاعدة عند الغليان، كيف يعدها غيرك وهي الحوار والكلام، إعلان الحرية، ونبض الجنون.

وأما الفنجان فتلك حكاية أخرى، القهوة ليست كغيرها، لا تقدم بأي فنجان، فأنا مثلًا لا أشربها إلا بفنجان أبيض، أريد من الأبيض أن يعكس جمالها الأسمر الشهي النضر، وهو له فناجين خاصة يجمع ما يشبهها من فناجين من كل بلد يزره، كلما سافر عاد بفنجان قهوة جديد، وهي تحمل فنجانها الخاص المكسور في حقيبتها حتى لا يشوب متعتها أي شائبة، وأما المذاق فهو التجرد من أي إضافة، فماذا نضيف لمذاقها المرّ، مذاقها الصادق.

نحن في الحقيقة نعاني من “متلازمة القهوة”، لأننا، أي عشاقها، نحمل عادتنا أينما حللنا، نحن أصدقاء الجنون لدينا أعراض ترجع في النهاية إلى سبب واحد، لكل عاشق فنجان خاص، ووقت خاص، وأفكار، وشرود، ووحدة، القهوة تحتاج إلى الوحدة لأنها من تنجب الفكرة، كم فكرة ولدت دون قابلة أو طبيب، يكفي حضور فنجان قهوة لتكون الولادة، ويكون الجنون.

وهي أم النضوج، أن يقدموا لك أول فنجان قهوة، فهم يقدمون لك شهادة اعتراف بنضوجك، بأنك جديرٌ بمذاقها، فمنذ تجرعتُ النضج من فنجان قهوة، لا أصدق الحقيقة إلا إذا جاءتني على ظهر رائحة القهوة، كم يحمل هذا الفنجان الصغير من الكلام، كل الشبهات تقف على قارعة فنجاني، هي صوتنا المكبوت، فمن يُسكت القهوة!

محمود درويش الذي طالما تغنى بها، أخطأ حد الجريمة حين لم يمنح المرأة حق المساواة مع الرجل في حبها، حين قال أنه ” لا يعرف سيدات كثيرات مهووسات بصباح القهوة، الرجل هو الذي يفتتح نهاره بقهوة”، كيف ذلك ونحن النساء صانعات القهوة، شاربات القهوة وعاشقاتها، هي لنا الصباح وراوية القدر، حبها لم يكن يومًا حكرًا على الرجال، لكن عذره الوحيد عذر عاشق غلبه تملّك معشوقته، فشارب القهوة محارب أعزل.

قهوتي…

توأم الشمس والحياة، ناقوس الصباح…

هي الليل اليقظ… ليل دون نعاس…

للأسود معنى آخر، معنى الحياة…

للأسود رائحة الجمال، جمالها…

فطوبى للأسود، لونها…

لون المذاق…

جلنار

كتاباتي

“اليمن” حين تصبح النهاية متأخرة

أيمكن أن ينسى ١،٨ مليون طفل في اليمن معاناتهم اليومية من سوء التغذية الحاد، وأن أكثر من 14 مليون يمني على شفا المجاعة خلال الفترة المقبلة، أينسى أي منهم أن أرواحهم تقدم هباء لسياسة لا شأن لهم كمدنيين بها، بينما ينام الحكام والأحزاب المتحاربة في دفء ملايينهم وفي حرارة صفقاتهم؟ أيعيش الشعب اليمني حرب اليمن أم حرب دول أخرى إختارت اليمن أفقر دول العالم العربي لتكون مسرح حربها.

أم  جرى العرف السياسي بأن يُستبْعد الشعب من فرق اللاعبين، فعلى حد قول مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم “لا يمكنك أن تربح المباراة دون أن تكون لاعباً ضمن الفريق”، لذلك ومنذ زمن بعيد لازمني يقين بأن ليس منا أي لاعب ولا حتى في الصفوف الاحتياطية، فجميعنا لا نتعدى كوننا تلك الكرة، يهاجمون بنا، يدافعون بنا، يسجلون بنا أهدافاً، ندخل مرمى ونخرج من آخر، نتأرجح بين أقدام المحترفين.

سبأ تلك الحضارة القديمة حكمتها امرأة في القرن العاشر قبل الميلاد، بينما ما زالت تقوم المظاهرات النسائية اليوم للمطالبة بحقوق المرأة بالعمل والمساواة بالأجور والحقوق، وعن أرض سبأ ذكر القرآن الكريم “(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)”، وكانت مأرب عاصمة مملكة سبأ تُمسك بزمام طريق التِّجارة الدولية الذي يصلُ بين أفريقيا وبلاد الشام  وفارس. تلك هي أرض اليمن التي كانت ملكتها بلقيس تخاف عليها أكثر من خوفها على عرشها الثمين، فحين وصلتها رسالة سليمان الآمرة لها ولشعبها خافت على شعبها، على تقدمه وثرائه، وقالت “إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة”، وآثرت الصلح والمهادنة وهي المعروفة بحكمتها رغم أن مجلس شورتها أشار عليها بالحرب رداً على رسالة سليمان الأولى، وحين شعرت بدنو الحرب، رحلت إليه لتجد عرشها قد سبقها كما يُروى، عرشها المصنوع من الذهب وهو من أكثر عجائب ممكلتها، “وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ”، تلك هي اليمن التي تصنف اليوم بأنها أفقر دول شبه الجزيرة العربية هي ذاتها أرضاً وتراباً، استحالت إلى رقعة خاوية الوفاض إلا من شعب لا حيلة أو قوة له.  حتى إنهاء الحرب لم يعد يكفي لتشفى ذاكرة أطفالها، ذلك ما يحدث حين تصبح النهاية متأخرة، ففي اليمن نهاية الحرب لا تكفي للحياة أو النسيان.

اليمن أصبحت نجمة دهشتنا الأولى بعد أن كانت نجمة تاريخنا، لأننا في فضاء الشرق، تاريخنا مهمل، تعايَشنا مع فكرة نظرية المؤامرة التي تفسر كل ظاهرة وحدث، مجهول أو معلوم، فمنذ الأزل خلقنا ثمناً لتحالف حواء مع الشيطان وتآمرها ضد آدم وأوامر الله ورضينا بأسطورة الشيطان وعواقبها وطناً لأعذارنا؟ لا مفر لنا من السقوط كيفما وجهنا أعذارنا..سياط الموت على أجسادنا، وسياط الإهانة في قلوبنا، حرب تنهشنا في كل مكان.. ولم يبق لنا من الدين إلا اسمه.

حاضرنا القبيح مجهول الهوية، البعض لا يعلم أن اليمن لخيراته وطبيعته كان يلقب باليمن السعيد، لا يذكرون سد مأرب، معجزة السبئيين الزراعية، ملوك التجارة وسلاطين اللغة… وبلقيس أسطورة اليمن الجميلة، وامتحان سليمان العسير.

أعيدوا لنا اليمن سعيداً كما كان..

كتاباتي

“رمزي”

مِن نِعَم الذاكرة علينا، أنها تزودنا بنصيب معين وقدر قليل من أحداث الماضي، ولا تُغرق كاهل عقولنا بتفاصيل كثيرة قد نستغني عنها، وقد نستحضرها تحت وطأة حاجتنا إليها.

“رمزي” كان جامع الأحلام والشاهد الوحيد على الهزيمة الأنثوية الجماعية، هو الخبر الأهم في نشرة أخبار الحالمات، أسيرات “رمزي”… فارس أمنياتهن وقدرهن المُعجّل.
تعاني المرأة من انتكاسات ما بعد الحب، حين تلتقي وتعيش مع رجل ثابتٌ نَسبه إلى الواقع، تدرك أنها لم تلتقِ بنفسها كما كانت تعتقد، فما أجمل الرجل ما دام مغلفاً بصفات البطولة، لم تجمعه الحقيقة بامرأة.
هنا تعيد الذاكرة “رمزي” من النسيان بعدما كان تحت الإقامة الجبرية لأحلامها ..

بنيّة غير معلنة رغم وضوحها، لكل امرأة رجل يسكنها، تمحي ما لا يعجبها به أو ترسم ما تتمنى وجوده بإشارة من حلم، تظن أنها كفلوبير حين قال: ” كل ما يخترعه الإنسان يصير حقيقة”، فتخترع رجلاً من بحر الأوهام القَصِي، كيف لا تصنع رجلاً من صقيع الخيال المتجلد، تصافح وجهه في ملهى إرادتها، كيف لا وحُلم المرأة جمالها.
لطالما عجزت عن فهم تلك الجداول من النصائح الاجتماعية التي تملأ صفحات المجلات والكتب والمواقع الإلكترونية لتحضّر المرأة لتتعامل مع زوجها وتسعده، وكيف تحل مشاكلها الزوجية، وكيف تتعامل مع مزاجيته، وما هي الإشارات التي تؤكد أنه ما زال يحبها، وفي المقابل تحضّر الرجل لاستقبال امرأته كطبق أنيق معدٍّ من نصائح واهية، تجرفه غرائزه، وتتسكع رجولته الشرقية في نعيم مفاتنها، ليس غريباً إذاً أن يُخلق رجل وهمي في خيال المرأة تسميه “رمزي” كناية عن كل ما تمنّت من صفات في زوجها وحبيبها، المشكلة ليس في ساكن الخيال بل في ما يحدث حين تفض عذرية الأحلام، وتبدأ مناظرة المقارنة بين “رمزي” وبين رجل حياتها الحقيقية.

الأمر لم يعد جديداً أو خفياً؛ المرأة والرجل من كوكبين مختلفين، تهرب هي حين يخذلها إلى الدموع، ويهرب هو إلى حضن امرأة أخرى مدعياً كما هي العادة أنها عصية على الفهم، رغم أن سرها ليس صعباً ولم يكن يوماً كذلك، تريدك أن تراها كما هي لا كما الرجولة تفرض عليك صورة المرأة، وأن تحمل هواجسها ومستقبلها بين شفتيك وتقبلهما بحنان كأنهما هي.

كلما اجتمعت أنثى بأخرى، اكتشفت أن النساء ينتمين إلى نوع واحد فريد من الورد ليس أكثر، تجمعنا أحلام غير بريئة، عذوبة فكرية، أنانية علنية، كيف لا تكون المرأة سيدة الكون الأولى، وهي ثواب الجنة للرجال!
لعل هذا يفسر لي لمَ كل القصائد والحكايات حيكت لتصف فارس الأحلام القوي الخيّال، فالقصائد كتبت لتخليد صفات غير موجودة، وليس أي رجل يستحق عنفوان امرأة…

أما مناسبة الخوض في ذكريات “رمزي”، أني التقيت صديقة قديمة ما زالت تنتظر “رمزي”؛
“رمزي” صورة الرجل الجميلة التي نسجتها بإسقاطات الأوهام وتراكم حكايات الأبطال، رمزي مجموع صفات غزلتها رغبات الفتيات على أمل أن يكون حبيبها على هيئته.
فانتظري إن فرغت من حزنك على ضياع رمزي، انتظريه كباقي الأحلام… لأن اليوم صانع الغد…
الأحلام خلقت من أجلك فلا تكوني نصف امرأة معلقة بطرف حلم…
والله لا يمل دعوات عبده!

من منا لم تغفُ على وقع خطوات “رمزي” في أحلام قلبها!

جلنار

كتاباتي

آخر الخيول البيضاء

آخر الخيول البيضاء… هو آخرها…
التقينا … كان لقاؤنا كالحب من طرفٍ واحدٍ، طرفي… وليس عابراً، فقد لحقته لقاءات أخرى، أيضاً من طَرفي الوحيد…
لا يشبه إلا نفسه، شعره الرمادي ونظاراته، تسكن عند زاويتهما ذاكرة تنبض بقوة كدقاتِ قلبٍ فتيةٍ رغم كبرها، ذاكرة جمع تفاصيلها وأضافها ليس مرغماً عمراً آخر إلى عمره.
بحنينٍ لم يعد يتقنه سواه، كان بين أولئك الشباب الذين التفوا حوله ليُوَثِّقوا لحظتهم بصورةٍ يتكئون عليها حين تضعف ذاكرتهم، وبعد أن حفظوا لقاءهم به بعدد من الصور، اعتذر منهم بعد أن ملأت إضاءة كاميراتهم المكان وأفسح المجال لعازفي الأوركسترا ليبدأوا حفلهم.

لقاؤنا الثاني ذكّرني بالشاعر أدونيس، حين سُئل عن الجماهرية الفنية للأديب، قال إن أكبر أكذوبة فنية هي “الجمهور”، وأنه يقيس تدني الشاعر بجماهيريته. محمود درويش أيضاً كان يعتبر أن النجومية لا تعني شعراً عظيماً بل قد تخفي شاعراً ضعيفاً، أتراه هو أيضاً له هذه الفلسفة، لأراه يمشي وحده مغادراً إحدى الأسواق التجارية دون تجمهر حوله، وكأنه مغلف بشفافية أدبية تحميه من خطر جمهوره.

رأيته حقاً، أم خداع بصري أصابني تحت سحر الشِّعر، أنيقاً كما لو كانت أمسيته الشعرية، ياسمين الليل أرسل لي إشارة بأن رائحته تعني شيئاً، كنت في زحامِ كلمات وصورٍ شعرية تتقاذف مخيلتي، حين انتهت الأمسية الشعرية، والتحق الحضور بشاعرهم، أصر الياسمين على أن ألتفت خلفي… رأيته مغادراً، كان بيننا يغذي روحه بكلمات شاعر غيره.
قال حقيقته برحيله السريع، مزق بقايا الغرور وغاب… اختفى فجأة كما ظهر في جوف الغرابة وتساؤلاتي!

قاوم بغزارة حروفه وكتبه للحفاظ على الحرف العربي في حرب اللغة، حرب مضافة إلى حرب شعبه … هو ابن من حلموا بالعودة وماتوا غرباء…
لو كانت أعمال الأدباء هي أسماؤهم لكان هو “الذاكرة الفلسطينية” …

وكأن الخير يأتي خيلاً … أصيلاً كأصالته
لم أر يوماً جنوناً بهذا الهدوء…
إبراهيم نصرالله دمتَ على تواضعٍ كما أنت…
كما أرادت لنا أمّنا… سيدة الأرض… فلسطين…

جلنار

كتاباتي

صورة طريفة لوطن

وسط غابة من ركام الحجارة، رائحة الدمار تنبت سريعاً، سماد بشري وماء أحمر، وحرارة القصف، بيئة جيدة لنمو الدمار، لا حاجة لتقليم أشجار الشهادة…

اجتمعوا عند سنديانة بعمر النكبة، تغطيهم بظلّها كأنها تحلف على رؤوسهم اليمين بأنها شاهدة على نكبتهم، معمِّرة، فذكرى واحدة لعمرها لا تكفي، بل ستين وأكثر، وأكثر…

حضروا من كافة أنحاء الذكريات ، وحتى الذكرى الغائبة جاء من ينوب عنها، حضورهم كان واجباً، سمعوا أن الدمى ستلعب شخصية جديدة في هذه المسرحية، تدعى “وطن”.

بدأ العرض… ظهر “وطن”، بطل الحكاية، انحنى أمام ترحيبهم، صفقوا له جميعاً بحرارة لا مثيل للهيبها، صعدت أصوات الشعارات عالية دون مكبرات صوت، أضيفت شعاراتهم أُسوةً بالنص الأصلي للحكاية، وأدّاها وطن بحرفيّة فنية وطنية.

حكاية وطن هي حكايتهم، حكاية الياسمين وشقائق النعمان، ولذة طعم الزيتون وحلم السلام.

تُحرك وطن يدان عملاقتان خفيتان يتظاهر الجمهور بأنهم لا يروهما، واحدة أكبر من الأخرى بقليل، أو هكذا تبدو، وأيدي صغيرة جداً تلحقهما كيفما اتجهتا! تنتفض وتخاف بأمرهما، وتهدأ بأمرهما…

وفي لحظة فاجأتهم، لم تكن إشارات اليدين العملاقتين واضحة، لكن الأيدي الصغيرة ظلت تتحرك في نفس الاتجاه، إلى أن جاءت سحابة غامضة رمت رذاذاً مجهول النسب، ما إن رحلت حتى تحركت الأيدي الصغيرة بصورة عشوائية واتجاهات مختلفة، ليست مختلفة فحسب بل متعاكسة وإثر عشوائية حراكاتهم تعثّر “وطن”، لبِث برهة يتأمل وجوهم، صمته ملأ المكان حداداً على نسيانه نص حكايته والشعارات…

وفي خبر عاجل…

وقع وطن…

من طرافة المشهد…

ضحكوا.. ضحكوا كثيراً… بعضهم ضحك ولكن الدمع غلبهم، فغلبوه، وأبقوا على الضحكة… ليست مصادفة هي التي جمعتهم بوطن في هذه المساحة من جغرافيا العالم بالتحديد، بل ليسجلوا هروباً جديداً على سطر جديد من صفحة التاريخ…

جسده الموشى بألوان الكدمات، ذكرى الألم مطبوعة على جسده، لتؤكد أن مرورها ليس عابراً! أداروا ظهورهم مغادرين.. لم يحاولوا حتى السباحة عكس تيار الخجل… بل غطى الزبد روحهم سريعاً دون مقاومة تملؤها صدوغ هرمة، وكأنها جاهزة للموت. سألهم… سأل الكراسي الفارغة، بصوت يشبه الصراخ و لكن أكثر هدوءاً، يشبه العتاب و لكن أكثر حدة…

ألم تشبعوا موتا؟

ونام !

 

*المكان: مسرح الدمى في مخيم اليرموك

جلنار