الكلمة، قول أم فعل؟

في الوقت الذي نُجمع فيه على أثر الكلمة وقوة تأثيرها، تأتي الأحداث بدروسها كي ندرك  كم أن الكلمة مُرعبة، بل ومُرهبة، ولها من القوة ما لا يملكه جيش مُحارب  قوي العتاد، ذلك أن  الكلمة فكرة، والفكرة خطر عنيد، خاصة إذا ما انحرفت ولو قليلاً عن مسار المجتمعات وقوالب أفكارها الراسخة والمتوارثة عبر الزمن. الكلمة ممارسة الفكرة واحترافها، ذلك ما يجعلها تثير الفكر المناقض وتحثه بجدّ على التفكير وقد تهز ثوابث كان من المرجح أنها راسخة فجاءت الفكرة وهزت استقرارها، ومن هنا يتولد الخوف.

الذين يحاربون الكلمة خوفاً منها، هم الذين يمكن للكلمة أن تهاجمهم منتحلة بعض المفردات كمفاتيح سحرية مخترقة نقاط ضعفهم. حدث قديماً جداً أن ورِث موسوليني الخلافة بأمر القانون إثر سقوط الخلافة العثمانية ومنح نفسه لقب حامي الإسلام في ليبيا، بعدما أُخمدت الثورة الليبية الشهيرة بدموية شديدة، وبعد عقدين من الحرب استطاع موسوليني بخطاب مؤثر استمالة بعض الليبين بما يتناسب وعقائدهم بمباركة من تبقى من القادة المسيسين والذين أضعفتهم الحرب، ودعا إلى السلام والعدل واحترام الإسلام، ذلك السلام الذي لم يؤمن زعيم الفاشية ومؤسسها به يوماً، واعتبره منهجاً ضعيفاً متعفناً لا يمكن أن يتبناه في سياسته، بينما دخل بكلماته المسالمة ليبيا من أجل غاياته حاملاً  سيفاً فخرياً سمي ب“سيف الإسلام”، ولم تكن غاية موسوليني حينها سوى استخدام الليبيين كجنود في الحرب العالمية الثانية بعد أن ضم ليبيا إلى ايطاليا وبالطبع لأهمية الساحل الليبي وموقعه. حدث ذلك علـى الرغم من موجات جدل عالمية أثيرت حينها معظمها جليّ لا يخفى وضوحه على أحد،  تؤكد على نقيض ما حدث ظاهراً، كأن يحمل لقب الخليفة موسوليني غير المسلم والذي ليس لديه دراية بالإسلام، بالاضافة لقصة السيف اللغز وكثرة الروايات حوله بأنه مهدى إليه مرة من الصوفية ومرة من اليهود وبأنه مزين بصليب فكيف يكون سيف الإسلام، العبرة من كل ذلك بأنه جاء بخطابات وأفعال موائمة للعقائد والأفكار استطاعت مع كل النقائض الواضحة أن تُحقق غايات لم تحققها الحروب السابقة، رغم حساسية الأمر وخطورته.

قبل عامين قُطّعت أوصال جثة خاشقجي عقاباً له على كلماته وليكون مصيره عبرة لكلمات أخرى قد تخرج من أفواه تسكنها، الكلمة هنا كانت من نوع آخر، لم تأت ككلمة موسوليني مغايرة لتاريخه الدموي وخطته المكشوفة، هي من  ذلك النوع  ذي الحديّن، أحدهما يلامس أفكار البعض ويقترب منهم وينوب عنهم، والحد الآخر يعارض سلسلة محكمة من القيود قد يُرخي وثاقها ويضعفه، وخوفاً من تحول الكلمة من السكون إلى حجر أساس مُقاوم، كانت النهاية التي شهدناها، ذلك أن الكلمة سؤال، والسؤال غالباً فكرة، والفكرة شر لا يمكن درؤه، أما الجواب فمثقل بالمعاني. 

كذلك أرهبنا موت الصحفي الأردني  تيسير النجار الذي أماتته تبعات نشره لكلماته، حتى عمّ الصمت، وأعني صمتنا نحن لا صمته هو، فهو قال كلمته بشجاعة حين أراد، وترك لنا الخوف من كلمته ومن نهايته، لقد حاول بعد كل ما تعرّض له، مواجهة الكلمة وتبنيها، وعن الكلمة واصراره كتب “منحاز إلى الحياة . لم أكن منحازا للحياة مثلما هو حالي الآن . في سنواتي الماضية خسرت الكثير ..الكثير … إلى الحد الذي يجعلني أقف ضد الموت بكل جرأة ، وقوة ؛ تلك هي  قوة الحياة : قوتي حيث للكلمة شرفها ،وموقفها، ومداها الذي يتسع بمحبة الله ورضاه.”

وجه آخر للكلمة غيبه الموت، نوال السعداوي، الباحثة المتفق على جرأتها، والمختلف على فكرها وكلمتها وفعلها وتصريحاتها، لم ينصف الموت تاريخها المليئ بالعلم والبحث والتجربة، العقلية التي قابلت موتها بالشتيمة ونصّبت ذاتها حارسة للجنة والنار لم تقرأ السعداوي أو تطلع على أي انجاز قامت به، تمسكوا فقط بإلحادها وظنوا أنهم بشتيمتها وإدخالها النار بواسطة دعواتهم أنهم يحمون دينهم الرحيم البعيد عن التشفي بالميت، فكيف يمارسون ما ينهى عنه الدين دفاعاً عنه؟، قرأت بعض كتب نوال السعداوي في صغري، كتبها كانت في مكتبة أمي  فهي درست “علم النفس” في الجامعة واحتفظتُ بها، أذكر أن أكثر ما شدّني حب نوال السعداوي الفريد “للمرأة” التي ظُلمت مراراً باسم الدين والقانون والعائلة والمجتمع، لعقلها وجسدها وحياتها ولكينونتها.  بعد ثورة عقابها وجلدها على منصات التواصل الإجتماعي التي لم تصلها في موتها، أتساءل، لماذا يخاف البعض من الاستماع لما يخالف فكره أو إيمانه؟ إذا كان إيماناً قوياً، أيهزه فكر مختلف؟.أكثر المقاطع تداولاً على منصات التواصل الاجتماعي  كان  بعيداً تماماً عن الدين، بل يختزل بدقة، فكرها السياسي والاجتماعي والنسوي، حين قالت، أدعو الفتاة إلى العمل دائماً هكذا ربيت ابنتي، المرأة التي لا تستطيع اطعام نفسها تبقى ضعيفة، تماماً كما الدول التي لا تطعم شعبها تبقى ضعيفة وأسيرة لحكم الدول العظمى، موتها استحقاق، المرسى الأخير لحياة الإنسان، ليس مسرحاً للكراهية أو التشفي الذي يترفع عنه صاحب الإيمان الحقيقي. 

الكلمة تتعدى كونها قولاً، هي فعل عنيد.

“أن تتعفن حياً”

عبارة قاسية، مرهقة وتشعرك حتماً بالإجهاد،  جاءت على لسان الكولونيل أركاديو في رواية مئة عام من العزلة، حين قال  “انتبه إلى قلبك يا أوريليانو . إنك تتعفن حياً”، منذ قرأتها قبل سنوات ولها التأثير العميق ذاته، هناك نصوص تستولي على مكان ثابت في عقل القارئ لغزارة معانيها. أما السؤال الأقسى الذي أثارته تلك العبارة، من منا يحيا وهو ليس متعفناً بالمعنى الذي قصده ماركيز، أو ربما أكثر؟ 

المعضلات التي نعيش منغمسمن بها بأشكالها الاقتصادية وبالتالي الأخلاقية، وليس بالجديد أن ترتبط الأخلاق كتبعية اقتصادية أو حالة حتمية مترتبة على التردي الاقتصادي كما بتنا نشهد يومياً حالات العنف والقمع والقتل على صعيد مجتمعاتنا، أو على الصعيد الدولي، ويضاف إلى كل هذا الحالة الصحية التي أغرقت العالم بطوفانها مؤخراً، وإن كانت طارئة لكنها أصبحت وتيرة متصاعدة، وليس هناك طرف خيط يدلنا على نهاية المطاف، جميعها معطيات تُشرف بطغيان على الحالة الإنسانية، وكأن الحياة آلت إلى صراع مكشوف، البقاء فيه لمن يتخلى عن نفسه.

كنت قيد الكتابة وتحت سطوة الأفكار، أحاول دراسة إحدى الشخصيات المستوحاة من التاريخ وأبحث في عمقها لأكتب عنها، فصاحبها ثار على ظلم لحق به وبشعبه، ثم حين جاءته الفرصة ليتسلّم السلطة، أصابه مرض السلطة الخبيث وفَتَكَ في خُبث قراراته وراح كمن أشعل ثورة مضادة على ثورته الأولى، ورافق ذلك تصريحات مستهلكة لمسؤول دوّخ الشباب قبل تسلمه منصباً هاماً بخطابات حماسية تنتقد المسؤولين ثم بدوره أصبح يردد من منصبه الجديد الشعارات ذاتها التي كان دائم السخرية منها، حينها دقت ذاكرتي على عبارة ماركيز وشعرت بهؤلاء متعفنين حتى الجذور، فنحن غالباً ما نعتقد أن من تعرض لظلم في حياته، يبقى ليناً وحليماً وعلى قدر عالٍ من الإنسانية متخذاً ظروفه السابقة مرجعاً لتفُّهم الظلم الواقع على الآخر، بينما ما يحدث هو النقيض، تقتل السلطة حين تُعطى لصاحبها ماضيه، أو تتكئ عليه بحيث يصبح الوصول إلى السلطة قبر الإنسان الأخير ومولد المتسلِّط. وهنا يراوغ التكرار في فرض نفسه ويعيد التاريخ ذاته مراراً في السلم، والحرب، والمرض، والسياسة والقمع، وإنما بقوالب مختلفة ويولد المزيد من الفاسدين ويزداد العالم قُبحاً، وقد اختصر غوته ذلك كله في قوله “من لم يتعلم دروس الثلاث آلاف سنة الأخيرة ، يبقى فى العتمة”، وفي هذا تفسير عميق لعتمتنا. 

ولأن الأشياء توجد وقد خلّفَتها أسبابها، فإن تعفّن النفس حالة تصلها حين لا تتوفر لها بيئة تحفظها، بحيث يضمر جزء منها ويتعفن، ثم يتصاعد الأمر حين لا تجد علاجاً يحمي ما صلح منها فيمتد الفساد وتنتقل العدوى ليس فقط إلى الأجزاء الصالحة منها بل تطال من حولها ، فالفساد حتماً داء معدٍ.

في هذا الضباب الرمادي الكثيف الذي نعيشه حالياً، تزهق الأرواح تحت أسماء مختلفة بعضها وهمي وآخر حقيقي وتدفن الإنسانية، ومن يشهد ذلك يتلقاه في صمت بليغ، هناك فاعل أمام شاهد صامت رهين قانون القوة. تماماً كما نشهد الأرواح التي حصدها الوباء والفقر الذي زادت معدلاته، والأوطان التي تباع وتشترى، والاغتيالات المتكررة، والاعتقالات. وعلى الطرف المقابل نعيش الانتظار، والاستسلام، في مواجهة موجات  الفساد وهي تهز مناعة الروح فيصبح التعفن مقبولاً ومتناسقاً مع الحالة العامة٠ 

كنت قد شاركت  قبل أيام على صفحتي على تطبيق انستجرام سؤال وجهته إلى الأصدقاء، كيف يتعفن الإنسان حياً؟، جميع الإجابات كان فيها ما هو مشترك، ما يعني أننا نشعر أن جزءاً منا قد أصابه العفن ولو ضئيلاً، فكثيراً ما نحبس أنفسنا في تفاصيل تجعلنا نتعفن أحياء دون دراية حقيقية بما آلت إليها أنفسنا… 

سأشارك بعضها كما وصلتني:

حين ينعدم الأمل والهدف 

حين يقسو القلب 

حين يفقد الشغف 

حين يتجرد من إنسانيته 

حين يموت إحساسه بكل ما حوله 

حين يعيش ألم الماضي ويتجاهل الحاضر

وعندما يكره. 

وأضيف عليها بدوري، الأنانية عفن مقيت..

أما المأزق الأكبر الذي نواجهه فهو “النجاة” بما تبقى منا.

أن تقرأ لسلمان رشدي!

تختلف وجهات النظر، والذائقة، والآراء، فالأنماط الإبداعية تختلف بحسب أصحابها وطبيعتها، والدوافع خلفها، كذلك يحصل الأمر ذاته بالنسبة للمتلقي، فالإبداع قد يتوغل في وجدان المتلقي أو قد يحدث عكس ذلك وتقذفه الذائقة بعيداً لأن تأثير الإبداع نسبي من شخص إلى آخر، حتى اختياراتنا قد تكون متناقضة في بعض الأحيان، على أمل ألا يُفسد هذا الاختلاف الودّ، أو يحولنا إلى خصوم تفجر براكين الانتقادات غير الملائمة لمدى الاختلاف أو طبيعته.

تلقيت بغرابة ردود فعل بعض الأصدقاء، حين قمت بنشر صورة غلاف “أطفال منتصف الليل؛ لسلمان رشدي كإشارة لما هو قيد القراءة حينها. وتلقيت وابل من الاستنكار ملحق بعلامات تعجب. 

بالطبع كان وجه الاعتراض أني أقرأ لمؤلف “آيات شيطانية”، ولم يشفع لي بأني أقرأ “أطفال منتصف الليل” الحاصلة على عدة جوائز عالمية وربما أكثرها، مع إيماني الدائم بأن الروايات الحاصلة على جوائز ليست بالضرورة هي الأفضل، فهناك ذائقة مختلفة للنقاد، وغالباً ما أثق بذائقة القارئ بالمقام الأول، وبفضولي، ورغبتي بقراءة كل ما يتسنى لي قراءته. تلك الموجة المُستنكِرة لم تخفف من رغبتي بإكمال قراءة الرواية، بل كانت بالنسبة لي، و بحيادية تامة، مثالاً جميلاً لرواية تنتمي لأسلوب الواقعية السحرية كما هي روايات رشدي، وخلّفت بدورها أسئلتي الخاصة.

بعيداً عن البعد الديني الذي تجرأ سلمان رشدي على تخطيه، ووقع ضحية شيطان أفكاره، في رواية “آيات شيطانية”، فإن روايته أطفال منتصف الليل كُتبت قبل سنوات طويلة من آيات شيطانية، تماماً كما كُتب على غلافها الخلفي “لم يقرأ كثيرون رائعة رشدي التي صدرت مطلع الثمانينات، لقد توقف العرب عند “آيات شيطانية” ولم يخرجوا منه إلى اليوم.

ما ورد على الغلاف يتعدى رشدي ورواياته، فما يحدث أن البعض يتوقف عن الرغبة في المعرفة، بمعنى أدق، يتوقف عن القراءة لكاتب معين وقد يصل إلى الاستخفاف به، لمجرد ظلال نقدٍ هاجمت الكاتب، تلك التي يصدرها بعضهم ويلحق بهم آخرون، دون دراية بالأسباب، أو إن كانت تستحق ما إتُهم به الكاتب أم لا.

 المسألة ليست بما تحتويه الروايات، أو إن كانت تتقاطع مع أفكارنا وعقائدنا أم لا، فمنذ فترة، حدث موقف مشابه، فقد كنت أيضاً أقرأ لكاتب أصبح مؤخراً غزير الإنتاج بصورة ملفِتة، حتى أن القراء باتوا ينتقدون كثرة إصداراته، لما في ذلك من تكرار كما يرون، ووصلتني  حينها علامات التعجب ذاتها. أيعيب الكاتب كونه غزير الإنتاج، لأتوقف عن قراءة رواية جذبني موضوعها وعنوانها ولغتها؟ أم على الكاتب أن يتوقف عن الكتابة إرضاءاً لمنتقديه؟هناك من يعطي نفسه حق النقد، وفي ذلك حرية للرأي، بينما آخرون يتبعون الموجة ويتبنون أفكاراً متجاهلين أصل الفكرة وأسبابها.

أيضاً نشرت إعلامية كانت قد خاضت تجربة الرواية والنشر، منشوراً تضمن عتاباً لأحد  الكتّاب الذي هاجمها لاعتبارها من وجهة نظره قليلة الخبرة حتى تخوض تجربة الرواية،  وذلك رده على أن روايتها الأكثر مبيعاً بحسب دار النشر، وقطعاً تبع تعليقه تعليقات لا تنتهي لمن يوافقه الرأي ويهاجم الكاتبة، وبكل تأكيد لم يقرأ روايتها أياً ممن كتب تعليقاً أو انتقص من تجربتها. 

إحدى أكثر الكاتبات العربيات شهرة تتلقى علامات التعجب ذاتها، وغالباً ما أُلاحظ موج جارف من التعليقات للتقليل من أهمية نصوصها، التعجب يطال منشوراتها ومنشورات مريديها فهي أكثر الكتاب نشاطاً على صفحات التواصل الإجتماعي. ذلك يوضح كم أن النقد المُعدي يطال الجميع، -ليس الجميع- فلا أحد ينتقد عملاً لم يُنجَز. 

يبدو الانتقاص من النجاح مع نسبية هذا النجاح ظاهرة عامة، وستبقى كذلك،  فليس من السهل إن نتقبّل سوى الاعتيادي، والمتفق عليه برمادية بائسة. وسيظل هناك مع كل خطوة يقوم بها المبدع من يحاول بلا طائل سفك روح الإبداع، وسيبقى الإبداع علامة تعجب فارقة.

ما أظهره فيروس كورونا عن علاقة الشعوب بالحكومات

للدولة مفاهيم كثيرة، قد ينظر كل شخص إليها ويعطيها وجوداً ومفهوماً مختلفاً، ذلك طبعاً غير تلك التفسيرات الكثيرة التي قد تدّعيها النظريات السياسية لتسيطر على الدول وإن كانت هي أيضاً جزءاً من تكوين الدولة ذاتها. وبكل الأحوال تبقى هناك ركائز أسياسية متفق عليها، وهي بمثابة الهرم المكوِّن للدولة، وهي الشعب، والأرض، والحكم. 

أذكر مرة بينما نعيش الصراعات بأنواعها، السياسية والإقتصادية، ونتلقى نتائجها كشعوب، بأني في لحظة تأمل مضحكة، وبالنظر لما هو قائم ومعمول به، لم أجد ما يستدعي أن يكون الشعب أحد ركائز الدولة الرئيسية، لعلّه بحكم وجوده الذي لا محالة منه، يدخل حتماً ضمن أحد التصنيفات، كأن يكون أحد الأشياء التي تحملها الأرض، أو ملكية تعود إلى من يتولى الحكم، لكنه ليس بأي حال ركن مستقل ترتكز على وجوده الدولة كما يُفترض، حينها أضحكني أن يكون للشعب دوره الهام، فكيف له هذه الأهمية  في بناء الدولة، وهو يجني نتائج قرارات الساسة ويتحمل وزر ذنوب لم يكن شريكاً في اتخاذها، ورغم ذلك فهو بلا شك الأكثر تأثراً بها. كتأثره بالحروب وهي مجرد مثال لخطر يتجدد عبر الأزمنة، وضحيته الشعب الذي يُقتل ويُباد ويُحارَب. ففي الحرب إما أن نموت أو نرى الموت، فهل يُعقل أن تقوم أي حرب بمباركة الشعب على موته؟. الأرض تبقى وإن إتخذت شكلاً جديداً، والأنظمة تبقى وتحتاج إلى أجيال وأزمنة ليتغير شكلها، أما الشعب فهو الضحية الأولى والمستمرة.

ما يحدث حالياً من تغيير كبير في وجه العالم الهَرِم يطال تلك العلاقة الأزلية بين الشعب والحكومات، فهذه هي المرة الأولى بفضل جائحة كورونا العالمية، يتصدر الشعب القائمة، وتُتّخذُ الإجراءات لحمايته وتصبح الأرواح وسلامتها الهمّ الأول، وتغدو حصيلة الأموات مقياس لفشل إدارة الحكومات للأزمة في بلادها. 

في نيوزيلاندا الشعب شريك الحكومة، هكذا أعلنت رئيسة وزراء نيوزيلاندا حين قالت:”فريقنا مكون من خمسة ملايين”، وقَبِل الشعب شراكتها، لتكون بلادهم من أكثر بلدان العالم إحتواءاً للأزمة، التعاطف الكبير الذي أظهرته رئيسة الوزراء، في خطاباتها وقراراتها، وفي تواصلها مع الشعب بتلقائية، كان السر في نجاحها، لم تُعلِن الحرب كغيرها على الوباء، بل أعلنت الشراكة والدعم لتواجه وفريقها الوباء بالتساوي ذلك ما جعل الشعب أكثر إلتزاماً بقراراتٍ شعر أنه جزءاً منها وتمسّ مصلحته في الوقت نفسه. التعاطف حلّ مكان القوة والضغط، وكان أكثر نجاحاً وتميزاً. 

هذا التعاطف النادر والشراكة الأكثر ندرة بين الشعب والحكومة هما ما تحتاجه الشعوب وما ظنت أنه حق يسهل تطبيقه باعتبار الشعب أحد ركائز الدولة ومقومات وجودها، ولم يحدث أن مارسته من قبل، ذلك ما جعل ردود فعل الشعوب اتجاه حكوماتها، حتى الناجحة منها في إدارة الأزمة متباينة، فبرغم قدرة بعض الحكومات على إحتواء ما أنتجه تفشي فيروس كورونا بالنظر للإجراءات التي اتبعتها وسرعة أدائها، قد لا يجد أي طرف نفسه منتمياً للآخر، فالحكومة تصرح بقراراتها وتفترض وجوب التزام الشعب، والشعب ينفذ قرارتها، وإن لمسَ نتائج ايجابية فليس بالضرورة أن يتولد لديه رغبة في تقدير أو شكر إدارة الحكومة على تنفيذ واجب كان منذ البداية دورها الأجلّ والأهم وهو حمايته من أي طارئ يهدده، الفرق بأن ما طرأ هذه المرة فرض نفسه بصورة غير سياسية وجعل من نفسه غطاءاً قاتماً غطى العالم بأكمله، فأضحت الحكومات مجبرة على الإلتفات إلى الشعب، والذي لا يجد جهودها وإن كانت ناجحة كما أسلفت، شيئاً تُشكر أو تُثنى عليه، بل قد يجد للمرة الأولى نفسه يمارس حقاً طبيعاً من حقوقه وهو “الحماية”. وتمارس الحكومات واجباً كان مهملاً، ما يجعلها تتخبط في أداء دور كادت أن تنساه. 

بينما يَنْتُج عالم جديد هناك من يعيش أزمة أزلية ..

الحرب الأشرس التي يواجهها البعض بصمت ووحدة في ظل موجة الحظر الصحي، هي حرب البقاء والتصدي للجوع والمرض، والتماسك إلى أن تنقشع غيمة كورونا السوداء غزيرة المفاجآت، والتي لا أحد يعرف سبيلاً حقيقياً واضحاً لخلاصها وإنتهائها. حرب أولئك الذين بالكاد كانوا يجمعون قوتهم بشكل يومي، أو حتى أصحاب الدخل القليل الذي لا يحتمل أسباباً طارئة تجعله يزداد انكماشاً، وهم ذاتهم الذين كانت أقصى أمنياتهم أن ينتهي يومهم وقد تمكنوا من توفير أبسط حوائجهم. 

 كثرُت التنبؤات حول إنتهاء الأزمة العالمية التي سبّبها فيروس كورونا وإنتشاره الشرس، وعطفاً عليها أيضاً كثرت السيناريوهات المحتملة للعالم الجديد من بعده، بجوانبه الإقتصادية بالتأكيد والإجتماعية والنفسية والصحية. البعض أمهلها بضعة أشهر، وآخرون يتوقعون امتداد آثارها الكارثية المباشرة حتى نهاية هذا العام وغيرهم يتوقعون استمرارها حتى نهاية العام القادم. سلسلة التوقعات مشابهة لسلسلة التكهنات حول أسباب تكوّن الفيروس وانتشاره، وهي لا تنتهي بل تتجدد بشكل تلقائي كل يوم. وضمن العزلة المفروضة على الجميع كلّ يحاول إستثمار ما يملكه من فكرة أو وقت أو حلم أو مشروع على أمل أن تنتهي ويرافقها نتاج طيب. على الصعيد الأدبي مثلاً هناك من بدأ فعلاً بتحويل الأحداث إلى نص يروي واقعه الحي بمصاحبة خياله، وآخرون يراقبون ويستلهمون مما يجري أحداثاً قد يُبنى عليها نصوص مستقبلية، فلا يمكن تجاهل ما يحدث، فهو زمن يحمل خصوصية غير مكررة على غرار زمن الكوليرا الذي بنى عليه ماركيز رائعته “الحب في زمن الكوليرا”، وهو العنوان الأكثر تردداً واقتباساً هذه الأيام. 

رغم أني أجد الصورة غير مكتملة بعد، فحتى إنتهاء الوباء واستقرار الصورة الجديدة للعالم وما سيؤول إليه، يبدو الوضع قابلاً للتندر ومع ذلك فالأثر الكارثي لن يختلف على البعض، فهم ليسوا بحاجة إلى تلك التنبؤات بل لعلهم الصورة المستقبلية الواقعية للأزمة التي يحاول البعض وصفها، فعلى سبيل المثال نُشرت قبل أسابيع قليلة تقارير في الولايات المتحدة، تؤكد أن الأفارقة من ذوي البشرة السوداء هم الضحايا الأبرز في الولايات المتحدة بحيث ترتفع بينهم نسبة الوفيات من المصابين بالفيروس، وذلك بحد ذاته أثار زوبعة من التساؤلات والانتقادات حول التأمين الصحي المتاح لهم وظروفهم المعيشية الصعبة والعنصرية الموجهة ضدهم في بعض الولايات، هؤلاء وإن كانوا الحاضر لكنهم صورة ثابتة للفقر في الماضي وفي المستقبل، وهم كذلك المرادف للفقر والفقراء في كل دول العالم وبالأخص في أوطاننا، وبالتالي الفئة الأشد تأثراً بلا شك بأي جائحة أو أزمة تصيب العالم في أي زمان ومكان، الفرق الوحيد أن إعلامهم هناك قادر على تسليط الضوء على هذا الواقع بينما في البلاد العربية يتم التعتيم على هذه المسألة أو ردها إلى أسفل قائمة الأولويات، بحجة أن الجائحة عامة وأصابت الجميع، والجهود تُبذل للنجاة وتشمل الجميع. أصحاب الاستثمارات والملايين بل المليارات سيعوضون خساراتهم بما تبقى من ملايينهم بعد هذا الركود، لكن هؤلاء لن يعوضوا أرواحهم المهمشة فوق التراب وتحته، فالعزلة أوالحجر أو التوقف عن العمل مهما كانت التسمية ليست إلا قيد جديد يضاف إلى سجنهم الحياتي وحصار ظروفهم المُجهِدة ذلك ما جعلهم أول الضحايا. 

تلك هي الفئة التي لا بد من توجيه الإهتمام عليها وإعطائها الأولية القصوى، ليس فقط وسط هذه المحنة، فهم لا يملكون ما يساعدهم على البقاء، وليس لديهم مخزون مادي ولا حتى بنية صحية قوية تجابه المرض، ماذا عن أولئك الذين ليس بامكانهم تدوير الأشياء البسيطة والعودة إلى الوراء على سبيل المتعة كما يفعل البعض وهم يستعرضون صور إعداد الخبز المنزلي وغيره من الوصفات البيتية القديمة وكأنه في نزهة ريفية ضمن إجازة طويلة، كيف سينجو هؤلاء من هذا المنعطف الحاد إلى أن يصبح الطريق ممهداً للحياة من جديد؟

نعم تتصيد الشعوب اليوم أخطاء حكوماتها وهفواتها فما يحدث لها كفيل بأن يخرجها عن صمتها، تأخر استجابة الدول العظمى لتهديد كورونا واستهتارها به كان تقليلاً بمكانة وحجم الإنسان، فالهموم الإقتصادية والسلطوية لها دوماً الأولوية الكبرى، وبالطبع لحقت بها الدول الأخرى ومنها النامية فتأخرت هي الأخرى. سياسات الحكومات في العالم وكيفية توجيهها نحو شعوبها في ظل طابعها الأناني المقيت والبعيد عن المسؤولية، تذكرني بنص ساخر لفولتير من روايته “كنديد” حين كتب:-

«وكان قد قُبض على رجلين أكلا فرخة مع نزع شحمها، فقيّد الدكتور بنغلوس وتلميذه، الأول لأنه تكلّم، والآخر لأنّه استمع له سماع استحسان». 

منذ زمن والحروب تجعلنا نرى عوالمنا بخرائط مشوّهة لا تشبه تلك التي عرفناها كما لم تصل بعد إلى شكلها النهائي، اليوم هذه العاصفة الصحية الخبيثة ستأخذنا إلى عالم جديد بعد أن اهتزت أركانه القديمة بلا شك. حين نخرج من هذا الاستثناء الزمني، هل سنعود إلى أنفسنا ذاتها الواثقة من ثبات الأرض التي تحملها أم ستتكون أنفس جديدة يغزوها الشك، القادم أصعب بلا شك.

حين يهاجم جيش الأموات الأحياء ..فلمن تكون الغلبة؟

هذه المرة الأولى التي أغير خطتي في كتابة مقال كان من المفترض أن يطرح موضوعاً معيناً وأنتقِل لآخر، عادة تسكنني الفكرة وتقيدني بأعجوبة ثم لا تنفك تمسكاً بذهني حتى أفرغها بالكتابة، لكن الفكرة الطارئة حفرت قنوات عميقة في روحي وراحت تتشعب حتى أصبحت ثقيلة جداً، فكان لا بد من تغيير مساري والتوقف عندها طويلاً لأفرغها في هذا المقال علّ تلك الندوب التي هاجمتني من شدة التفكير تلتئم ولو رويداً. 

منذ مدة أنهيت مشاهدة حلقات مسلسل الفانتازيا “صراع العروش”، لم أقف حينها رغم كثافة العمل وطروحاته الغزيرة وعلى امتداد أجزائه العديدة كما تعلمون إلا أمام فكرة واحدة وجدتها حساسة وتمسّنا جميعاً رغم شكلها الفانتازي كما تقتضي طبيعة العمل، لكنها أخذت بُعداً واقعياً   بالنسبة لي وإن كان فلسفياً بعض الشيء وراحت تتفجر الأسئلة وتزدحم كغيم ثقيل. ففي الحلقات الأخيرة من أحد أجزاء العمل، وبينما كان الصراع على مدار حلقاته يدور حول العرش والحُكم كما هو جليّ من عنوانه، لكن العرش الواحد والأهم الذي اتجهت معظم الممالك لحمايته أخيراً هو عرش “الحياة”، كان ذلك حين أيقن محاربو الممالك الخطر الطارئ الذي يواجههم جميعاً، عدوهم المشترك، “الموت” الذي أصبح يمتلك جيشاً جسوراً من الأموات، الفكرة هنا شرّعت أبواباً لا يمكن قفلها من الحقائق وراحت تتدفق كسيل من الطروحات والاستنتاجات بما يفوق فانتازية العمل نفسه. 

كانت قوة جيش الأموات كما رأيتها بأن أفراده قادرين على النهوض من موتهم الجديد كأموات محاربين والعودة إلى اللحظة التي كانوا عليها في مواجهة الأحياء وما يرتبط بها من زمان ومكان وعمر وقوة، بينما رغم الولادة والتكاثر بين الأحياء لن يستطيع هذا العالم الحي ولادة محارب قادر على المواجهة منذ لحظة ولادته، بل وحتى عند موت أحد من أفراد جيش الأحياء سيصبح ميت وبالتالي سينتقل تلقائياً بولائه وصفته الجديدة كميت إلى الجيش الآخر الذي كان قبل لحظة موته يحارب ضده من أجل الحياة. ومن هنا تأتي الفكرة الأخرى بأن الأحياء يقتلون الصورة الجديدة من أنفسهم، ثم من كان السبب وراء هذا التزايد الكبير في عدد الأموات ومعظمهم تحت سيادة الحروب وقضوا بفعل قتل الأحياء لهم؟ وهل أرسل الأحياء جزءاً منهم لينقلب عليهم ويواجههم بشراسة مخيفة يستحيل السيطرة عليها؟ 

اليوم في زمن الكورونا أستذكر الفكرة، فهي المرادف الواقعي الحالي والحيّ لفانتازيا جيش الأموات، هي ذلك الخطر الطارئ الذي تتساوى القوى والدول أمامه جميعاً، وكما حصل مع ملوك العروش في صراعهم، عقدنا هدنة لمصلحة التصدي لكورونا، هذا الفيروس المتجدد والمتغير بخباثه تماماً كما تخيل العمل غرابة جيش الأموات وسرعة تزايدهم،  تشبه هدنتا تلك الهدنة القصيرة بين أحياء سينقلبون إلى أموات إن لم يواجهوا مجتمعين أسطول الأموات، وإن كانت هدنة السّاسة وأصحاب القوى في عالمنا غير معلنة أو حتى غير مفعّلة بشكل تام رغم ذلك وللمرة الأولى على الأقل في هذا العصر يحدث نوع من الإجماع العام لمواجهة خطر يطال الجميع بالتساوي، جاء على شكل فيروس الأمل في الشفاء منه كبير، لكن خطره الفعلي بانتشاره، والدور الأكبر يقع على الأصحاء منا الذين لم يزرهم الفيروس، فحربهم الآن أن يبقوا أصحاء لتكون الغلبة لجيشهم. 

المفارقة في “صراع العروش” أن الحرب لم تنتهِ  ببقاء الأحياء كما أن إنتصارهم ليس إنتصاراً بالمعنى الحققي كما أراه، بل حتمية لا بد منها فما معنى أن ينتصر الموت وهناك حياة؟ فقد عادوا فور إنتهاء حربهم الطارئة أمام جيش الأموات من أجل صيد العروش واستملاكها، ولن تنته الحروب بعد كورونا لعلها أصبحت متلازمة حياة، في نهاية الأمر.. الموت والحياة هما العرشان الحقيقيان وهما القوتان المتناقضتان للبقاء و الفناء. 

“لا تعذليه”

ليست الصحراء هي المسؤولة عن مقتل صاحب العينية الشهيرة ابن زريق البغدادي، أحياناً يقف الإبداع على أطراف حواف قاسية لكنها هشة وتُكسر. فلا يحتاج الموت إلى أسلحة ولا الحرب إلى الكثير من التكتيكات العسكرية  حتى تشن، فالموت قد يكون نتاج كلمة أو موقف وحيد، والحرب هي الحياة حين تسود غيومها الرمادية ، ثقيلة محملة بالفقر والعوز.

قيل عن ابن زريق بأنه شاعر الواحدة، وبأن قصيدته يتيمة، وبأنه عبقري بحكم خلود وديمومة صيت قصيدته إلى هذا اليوم، وبالرغم من اهتمام شعراء عصره بقصيدته فالكثير منهم عارضها أوكتب عنها أو حفظها، وبذلك تناقلها التاريخ وحفظها، حتى قال عنها ابن حزم الأندلسي “من تختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وحفظ قصيدة ابن زريق فقد استكمل الظرف”،  إلا أن موت ابن زريق وهو يحتضن كلماته الملتهبة تعكس ما هو أبعد من حب مات صاحبه وحفظه الشعر. 

ما قتله فعلاً وإتُّهم الحب واتُّهمت الصحراء الخاوية هو خيبة أمله بأن يجد تقديراً يليق ببلاغة شعره ومشقة سفره بُغية تيسير حياته بعدما عانى الفقر والحاجة ورحل تاركاً في بغداد حب روحه، زوجته التي حاولت استبقاءه لكنه عزم على الرحيل قاصداً الأندلس ليلتقي أميرها أبا الخير عبد الرحمن الأندلسي، وامتدحه بقصيدة ظن أن بها من البلاغة ما يسعفه لفك كربه، حتى حطّ الأمير من قدر قصيدته حين خالف توقعات ابن زريق وأعطاه عطاء قليلاً.

الفقر وعزمه على أن يجد حلاً في البُعد والسفر وقلة التقدير كلها أسباب جعلته يقصد الموت كمطاف أخير، أما الحب فقد كان خيط نجاته الوحيد الذي ما استطاع أن يصمد أمام القهر فمات ابن زريق متوسداً قصيدة تحمل حباً عظيماً، تركها إرثاً وحيداً لزوجته ولعشاق الشعر. 

كان الشعر آنذاك لغة وثروة، متجاوزاً بكثافته كونه وسيلة تعبير ينقل بها الشاعر بكلامه الموزون ما يعتريه من أحاسيس أو يعيشه من مواقف أو حتى كونه توثيقاً لعصر الشاعر وزمنه، به كان الحكام والأمراء يرسِّخون به عروشهم وسلطاتهم، فقد كان الشعراء إما الأمراء أنفسهم، أو شعراء يعيشون على مديح الأمراء والحكام أو يلوِّحون بهجائهم حين يستدعي الأمر. فأن يقدِّم الشاعر من غير الأمراء قصائده فهو يقدّم أثمن ما يملك وقد لا يملك سواه.

هذا الأمر لم يزل سائداً، مآسي الإبداع والآمال تتخذ عدداً لا ينتهي من الأشكال، وربما اليوم تصل إلى ذروتها، ليس بالضرورة أن يرحل شاعر ابتغاء مرضاة أمير مقابل فتات حياة، جرائم الإنسانية تتخد أسماء مختلفة وتكتسي صفات مشروعة. 

منذ أسابيع قرأت عن فاجعتين، حياة الإنسان وموته فيهما سيّان، إحداهما في البيرو حيث مات طالبان يعملان في إحدى المطاعم صعقاً بالكهرباء سبّبه عطل  في جهاز المشروبات ولم تتخذ الإدارة إجراءتها الفورية لاصلاحه فثمن المشروب الذي قد ييتوقف تقديمه بضع ساعات أغلى من حياة طالبي جامعة لم تتسع الدنيا لأحلامهما فرحلا وفي أحضانهما رسائل طويلة عن حقوق بسيطة لم يلحظ أحد أهميتها. الأمر ذاته حصل في مدينة عربية في وقت مقارب، حيث مات ثلاثة رجال  يعملون في البناء وكانوا قد رحلوا عن أوطانهم أملاً في عمل يحمي عائلاتهم وأطفالهم من الجوع، فأخذهم الموت بانهيار جدار استنادي كان من الممكن ألا يحدث لو اتخذ أصحاب المشروع تدابير تحترم أن العامل إنسان وليس حجر كذلك الركام الذي غطى جثثهم، وكأنهم رحلوا لينهار عليهم العالم ويضيعوا بين صخور الظروف وقسوتها.تلك القصص ليست سوى أمثلة يحدث منها الكثير على مدار الأيام.

وبالعودة إلى الأدباء، بعضهم يموت وبعضهم يشيخ ومنهم من يختار العيش في منفى رحيم يُبعدهم عن خيبات لا تليق بهم تصدياً منهم لهزائم روحية قد تصيبهم بمقتل من إهمال النقاد والإعلام وحتى القراء، ليعيشوا بعيداً في أحضان أوراقهم وأفكارهم الممتلئة بالحياة. 

يقال أن أمير الأندلس في قصة ابن زريق تأثر بموته، وبأنه لم يقصد الحط من قصيدته بل أراد اختبار طمعه، أهناك من أمراء أو أولياء الحياة وأصحاب النفوذ في أي ميدان اليوم، من يتأثر لموت أحد تخلّت روحه عن جسده بعد أن مات فيه الأمل.   

لا تعذلوا إذاً من هجر نفسه ودوافعه وما عاد يسعى لأن يُنجِز ما  كان يتوق إليه، فهناك أشياء ترحل ولا تعود وإن بقي أصحابها أحياء فهم يتجولون في متاهات الدنيا وهو آخر ما تبقى لهم. 

علمونا أبشع المعاني وأطلقوا عليها إسم “الشرف”، ونسوا أن يعلمونا أجملها وهو “الحب”..

العنف ليس رجلاً أو امرأة  ولن يتلاشى بحملات مناصرة المرأة وحقوقها التي تنظمها النساء لشعورهن المتزايد يوماً بعد يوم بالظلم، ولا بالموجات المضادة لها التي يطلقها الرجل للمطالبة بحقوقه هو الآخر أو الإشارة إلى ما يتلقاه بعض الرجال من تعنيف على أيدي زوجاتهم حتى لو كان بهدف السخرية الذكورية من الحملات النسائية أحياناً، فالأمر موجود بطبيعته نتيجة عنف راسخ ومتراكم لدى كليهما، حتى أن  الحال إنقلب إلى معركة من فريقين أحدهما من النساء ضد فريق الرجال المقابل.

 تأنيث المشكلة ليس حلاً بل تعزيزاً لها، ووضعها في إطار التعنيف الجسدي إنما هو تقليل من حجم العنف المخيف الذي يتعرض له الرجال والنساء في مجتمعاتنا، مع الإجماع والإتفاق على أن التعنيف ضد المرأة أوسع ويطال حقوقها القانونية غير المنصفة مقارنة بحقوق الرجل في أغلب البلدان العربية. العنف في الواقع ضد الإنسانية في المقام الأول تلك التي فقدت معناها وأضاعت دربها منذ زمن بعيد واستُبدلت بالوحشية.

فاطمة الجميلة الأردنية التي فقأ زوجها السفاح عينيها، ولم يترك لها شعاع خافت تلمح من خلاله أبناءها الذين ستبقى الحادثة تؤرق ذاكرتهم مهما حاول الزمن أن يعزلها بعيداً بحجة الوقت ليسعف طفولتهم النقية حتى تتعافى، تخطّت إطارها الأسري وخرجت إلى العلن لكنها بدأت تنطفئ وستُنسى مع الأيام أو يبرد فوران المجتمعات العربية التي شاركت معظمها في  لوم العنف والتعنيف وإحالة المسؤولية إلى سلطة الرجل الذكورية غير المبررة.

رغم أن حادثة فاطمة أيقظت دهشتنا وأرقتنا لأسابيع وفتحت أبواباً لا تنتهي من الأسئلة، ورغم أنني لا أجد عقوبة أشعر من خلالها بطيف العدل ولو زهيداً أمام ما حلّ بفاطمة وأبنائها، إلا أن هذا العنف الصادم لا يقتصر على هذه الحادثة  فهي ليست عرَضاً ينتهي بمعاقبة المجرم، فاطمة ليست مجرد حالة سمعنا بقصتها بفضل الإعلام، فجميعنا على يقين بأن ألف امرأة تففأ كرامتها كعيني فاطمة كل يوم وبعلم أقرب الناس إليهن وجميعهن محاصرين بتقاليد مجحفة منافية للكرامة ولا تقرب الإنسانية، بل ربما هذه الحالة زادت من مآسيهن وقيدت أنفاسهن خوفاً من التهديد حتى لا يصبح مصيرهن كمصير فاطمة. 

العنف أكبر من أن يُحصر في فكرة (المجتمع الذكوري) فالسلطة الذكورية هي نتيحة في نهاية الأمر نتلقى بسببها آلاف المآسي الإنسانية بشكل يومي وضحيتها ليست المرأة فقط بل الأبناء وبالتالي تنعكس سوداوية هذا التأثير الدرامي على المجتمع، العنف يبدأ منذ التنشئة، المرأة غالباً هي الضحية كصورة نمطية والطرف الآخر بالتأكيد الأقوى، حتى الأدب، المرجعية الثقافية، تناول المرأة  على مر السنين كجسد أو كضحية، بطولاتها لم تكن إلا استثناءات مهملة.

وفيما يتعلق بانتشار العنف، الأفلام والمسلسلات الرائجة عالمياً جميعها أصبحت تدعم العنف، وتجد له المبررات التي تجعلنا نتعاطف مع الأبطال ونجد لهم الأعذار، معظمها تروِّج للقتل ولتجارة المخدرات وللتحايل وتعطي لها مسوغات تشبه ظروفنا جميعاً، وينتهي المطاف بأن يخرج أبطالها أبطالاً فعلاً في نظر المشاهدين. 

مفهوم (الآخر) بحد ذاته أضحى مبتذلاً وغريباً وله ألوان وأطياف تُزرع فينا وقد تحصد شخصيات مجرمة، أو قد يتلافى أصحابها تلك المفاهيم بوعيهم ويتصدوا لها، من هو هذا الآخر الذي نعيش نحترس منه أو نتعامل معه بحذر أو عنف، الرجل هو الآخر بالنسبة للمرأة، والمرأة هي الآخر للرجل، فالجنس المختلف هو آخر،  كل من يتنتمي إلى دين هو (الآخر) بالنسبة إلى صاحب الدين المختلف، الأوطان والمدن كذلك (آخر)، الأفكار (آخر)، والعرق (آخر)، من هو هذا (الآخر) الذين نعيش إما لمحاربته أو في أحسن الأحوال  التعايش معه. ومن هنا يفتعل المجتمع بدوره تسويق فكرة تقبّل الآخر والتعايش معه، هذه المفاهيم تحمل في طيّاتها  إستعلاء لكل من لا يتطابق ولن أقول يتشابه معك في الظروف، العيب بدأ منذ زمن بعيد ونحتاج إلى أجيال وأجيال حتى نتعافى من إبتذال الإنسانية والإحترام ووضعهما في قوالب منفّرة، ذلك ما يجعل الحروب دائماً وأبداً طائفية وعرقية ودينية. 

أدت كثافة فكرة التعايش غير المدروسة إلى تعزيز االنظرة إلى الاختلاف وإعطائها حجماً أكبر وحوّلت ثقافة التعايش إلى ثقافة اللاتعايش وذلك بفعل الفقر والحال الاقتصادي اللّعين الذي جعل الإنسان يتآكل فكراً وثقافة، ففي حين تدعي المجتمعات حرصها على نشر التعايش، يفصلونا في المدارس في حصص الدين لاختلاف الدين، ويفصلون الذكور عن الإناث لاختلاف الهوية الجندرية، يميزون بين الذكي والغني والقوي لاختلاف مراكز القوة، كيف نتعايش وقد جعلتم الحياة بنظريات يتم تطبيق عكسها تماماً مثل حرب دائرة بسكون قد تصلنا بين الحين والآخر قنبلة مدوية كما حصل مع قنبلة عيني فاطمة. 

نحتاج إلى جيل يعرف حقوقه وأهمها حقه في الحياة باحترام، نعم الكيل طفح كما ورد في الشعارات التي خرجت لمناصرة فاطمة، طفح بكل شيء بالعنف والفقر والتمييز والجهل، أجمل ما في الثورات الحالية خاصة في العراق ولبنان أنها ثورات شبابية، الشباب، أولئك الذين ما عاد يعنيهم طائفة لا تُغني ولاتسمن ولا تطعم ولا تحمي بل وتقتل.  

الأمر برمته في الواقع أنهم منذ البداية علمونا أبشع المعاني وأطلقوا عليها إسم “الشرف”، ونسوا أن يعلمونا أجملها وهو “الحب”..

العزلة وطن آخر..

العزلة مفهوم متناقض ومفارقة غنية، هناك من يعتبرها ضرورة ماسة يحتاج إليها ويسعى للحصول عليها وسط فوضى الحياة،  وهناك من هم على النقيض ليس بمقدورهم إعتزال مخالطة الآخرين حولهم من أهل أو أصدقاء أو زملاء معظم ساعات يومهم وعلى اختلاف ظروفهم، بينما يرتبك محب العزلة بعيداً عن عزلته، بالنسبة إليه هي فن لا يتقنه إلا محترف باستطاعته تحويلها إلى إلهام مثمر. 

غالباً ثمة وجه خاص أكثر صدقاً يتكشّف لنا حين ننأى بأنفسنا منفردين عن متاهات الدنيا، كافكا الذي عادة ما يتم الحديث عنه حين يتناول الكتّاب موضوع العزلة وذلك لانعكاس عزلته التي اشتهر بها بشكل جليّ على نصوصه وكتاباته، له قول جميل “خجلتُ من نَفسي عِندما أدركتُ، أنّ الحياة حفلةٌ تنكَرية، وأنا حضَرتُها بوجهي الحقيقي.” كل منا يدرك وحده الوجه الحقيقي لذاته، ذلك ما يجعل من العزلة  فرصة إلتقاء بعيدة كل البعد عن أوجه الزيف الكثيرة حولنا. 

قد تكون العزلة منبر نعبّر من خلاله عن أسرار ليس باستطاعتنا مواجهة الآخرين بها بصمت غريب وحرّ يصرّح عما تعجز عنه الكلمات، بالنسبة لي أجدها أحياناً كنوع من حب الذات والبحث عن مكنون داخلي لا وجود له في مكان آخر، ولا شك في أنك تحتاج إلى الوحدة حتى تفهم نفسك أولاً قبل أن تتمكن من فهم العالم حولك.

ليس هذا فقط، بل قد تأتي أحيان نحتاج بها إلى عزلة داخل العزلة، شيء من قبيل أن تعتزل التفكير أو أن تحصر تفكيرك في هدف ما بعيداً عن فيض الأفكار التي تهاجمنا ونبقى محاصرين بها، فلم يعد بعضنا شغوف بعمله أو مسؤولياته المتراكمة وهو يترنح في دائرة يختلط بها المهم مع الأهم  فيزيد ذلك من التوعك الإجتماعي والنفسي المنتشر بيننا هذه الأيام. فأمر العزلة عند محبيها ليس بعداً أو ترفاً بل في الغالب هي حاجة تتحول إلى عادة، يرحلون إليها بفعل قوة جذبها المغرية، ذلك الغياب العرضي يتيح فرصاً للتفكير والتأمل والعمل ليس لها بدائل في وجودهم الإجتماعي، ذلك بدون شك يفسر نزعة الفنانين والأدباء وربما العلماء إلى رغبتهم بالانعزال فهم يحاولون فهم نتاج أفكارهم وتحويلها إلى شيء ملموس والبحث في تجاربهم الخاصة، قد تكون العزلة طوق نجاة ومعنى صعب وحدهم باستطاعتهم فهمه. 

الجميل في الأمر أن العزلة لم تعد كالسابق، ونحن نعيش في  عوالم إجتماعية عديدة منها الوهمي و الافتراضي والواقعي مع أشخاص حقيقيين أو مع شاشات ذكية، ما يعني أن هناك فائض من التواصل الاجتماعي،  لذا لم تعد العزلة حالة مذمومة تشعل الفضول لبحث أسبابها وإسقاط العديد من التنبؤات النفسية على من يتسنى له أخذ فسحة فارغة إلا من نفسه، لأن معظمنا صرنا متشوقين للفرار من هذا التواصل الزائد في كمه وزمنه وأشكاله، بل الأجمل خبر قرأته منذ فترة لفتني ولا أذكر عنوانه بالتحديد لكنه تحدّث عن خرافات تدور حول العزلة وبرّأها من جميع ما ينسب إليها من أبعاد سلبية ودعم بالحجج العلمية دورها الكبير في تنمية الإبداع.

حقيقة بتُّ أعتقد أن تلك العزلة المؤقتة مطلب جماهيري نُجمع على حاجتنا له، وبأنها مكان نرتبط به لاحتضانه لجنوننا وهمومنا وصدقنا وكذبنا، مكان مراياه فقط تعكس ما تراه بشفافية مطلقة، قد نجد فيه هويتنا التي ضللّها الازدحام، تماماً كما قال دستوفسكي “العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله”. 

الاحتراق الإبداعي

ليس غريباً أن يصبح المبدع سجين إبداعه، فالإبداع يشبه الكثير من القضايا الإنسانية التي تتحدّى ما تواجهه يومياً من ضغوطات وحواجز يفوق إجتيازها، إجتياز الحواجز الأمنية المتشددة في أكثر البلدان إنتشاراً للفوضى وإنعداماً للأمن، كون المبدع  يعاني من تلاشي الأمان في عالم أصبح فيه الإبداع فضفاضاً مثل بالون عملاق يطير بحمولة غير مفرزة، مختلطة بهواء غير نقي، ويمتلئ بإبداع مشتبه به، باستثناء المبدعين الذين يعيشون أوفياء لإبداعهم الحقيقي المغروس فيهم حتى اللحظة الأخيرة، أولئك الذين يسكنهم هاجس الإبداع ولا يبحثون عن صيغة رثّة مهما كان شكلها أو قيمتها في هواء البالون العملاق الملوّث.

لا يخفى على أحد أن المجتمع بتكوينه الحالي ،لا يلتفت إلى الإبداع ولا إلى المبدعين على أنهم نواة جِنَان لو استحق المبدع نصيبه من الرعاية والدعم، بل قد تجد إستخفافاً بقيمة المبدع  ودوره  الإبداعي وأثره على البيئة المحيطة به وعلى مجتمعه وربما العالم بأسره إن إستطاع أن يَخرج بانتاجه الإبداعي من دائرة محيطه المحدودة أو كان بإمكانه التفرّغ لرعايته بنفسه وتطويره. يأخذني ذلك إلى  دراسات أُثيرت في علم الجريمة تقول بأن سلوك الإنسان الإجرامي يعود إلى خلل جيني أو نفسي، فتجد العلوم تتجه إلى حلّ لغز الجين المجرم كمحاولة لعلاج الظاهرة والحد من نتائجها على أنها خلل يؤثر بشكل كبير على الدول والمجتمعات متناسين في تلك الدراسة الأسباب الإقتصادية والظروف الإجتماعية والإحباطات المتكررة للإنسان التي تعزز ظهور وعمل ذلك الجين المسؤول عن الجريمة، والأهم أن هناك جين آخر يستحق فهمه وتقديره وهو جين الإبداع ، فلماذا لا يهتم المجتمع بالإبداع كوسيلة لترويض السلوك البشري والتعامل معه على أنه حالة خاصة ملحة بقدر كبير بالنسبة إلى حامل الجين الإبداعي ووارثه وحاضنه، فالإبداع حالة لا يمكن السيطرة عليها أو قولبتها أو حتى نسيانها، وإهمالها له تداعيات سلبية كثيرة، ولا يعني ذلك تشبيه الإبداع بالجريمة ولكن الجريمة بمفهومها السوداوي تقع أيضاً عند التخلي عن الإبداع والمبدعين، ذلك ما يحدث حين ينصب الإهتمام على النتائج مهملين الأسباب.

الكثيرون يتعاملون مع الفنون الإبداعية على أنها هامش ثانوي لا يُلتفَت إليه إلا حين تسمح له الظروف بأن يفرض نفسه، كما نجد المبدع يصطدم بعوائقه الخاصة ولعل أهمها العائق المادي فيُجبر على العمل في مجال مختلف أو حتى مضاد لإبداعه وهنا قد يطوي صفحة إبداعه إلى إشعار آخر أو  قد يمزقها بلا عودة، وحتى من يسعفه الحظ ويجد فرصة عمل تتفق مع شغفه، يواجه عراقيل أخرى وقيود تحدّه، مثل القوانين الإجتماعية غير المرنة، أو منافسات سلطوية غير منصفة، أو يقع تحت رحمة بيروقراطية المؤسسات، وبالتأكيد لا يقتصر الإبداع على الفنون الذهنية والفكرية والعلمية، فكل شخص لديه إبداعه الخاص، ذلك ما دفع إحدى الشركات العالمية إلى دراسة التفاوت بين فرق العمل لديها حين  لاحظت أن إحدى  فرق العمل لديه طاقة إبداعية وإنتاجية ملهمة بينما فريق العمل الآخر في المؤسسة ذاتها وله نفس الظروف المقدمة من المؤسسة، أقل إنتاجية وإبداعاً، وإتضح أن الفريق المبدع يتشارك جميع أعضائه في الآراء والمهام من باب إحترام كل عضو من أعضاء الفريق ويتم تقدير وتبني الأراء والمبادرات المقدمة منهم، وحين  إجتمع إبداع الفريق إنعكس بالتالي على أدائه بينما لم  يكن ذلك هو الحال لدى الفريق الآخر الذي إحتكر فيه المدراء الرأي وأصبح الباقون مجرد منفّذين لقرارات الغير ليس أكثر.

 أعتقد بأننا نتفق على أن هذه الصورة لا تقتصر على إدارة المؤسسات بل جميع الهيئات الفكرية والأدبية والعلمية، وبأن حالة الفريق الثاني هي الأكثر إنتشاراً، ذلك يضع بلا شك المبدعين في عراك مع ذواتهم وإبداعهم ومحيطهم، لذا أصبحنا نحارب ونقاتل من أجل الحصول على فسحة ضيقة للأحلام أضيق بكثير مما نحلم لكنها المساحة الوحيدة المسموح لنا بها هذا إن إستطعنا حيازتها. 

من الملاحظ أيضاً وهو مما يعكر صفو الإبداع، أن الإبداع، والريادة، والتميز، والتفوق، جميعها كمفاهيم أصبحت تحتمل التأويل وتشمل من يملك ذلك الجين المبدع وغيره على حد سواء، لعل الإعلام الرقمي ساعد في ذلك فلم يعد المحتوى ذا أهمية بقدر الصورة التي حين تأخذ نصيبها من الترويج تستحوث على الإهتمام بمنأى عن قيمة الإبداع وأهمية دعمه وتوجيهه. بعض المبدعين يركبون الموجة محاولين الموازنة بين نتاجهم القيّم وما يطلبه الجمهور، والبعض يبقى ساكناً لا يقوى على مجابهة التغيّر ويعتبره ضد الإبداع وضده شخصياً ويسرد لك قائمة من الحجج المقنعة بأن الحالة السائدة لا تلائمه ويدخل في  موجة مقاومة لهذا التغيّر العام.

شي آخر يواجهه المبدع، وهو المبدع الآخر، نعم عالم الإبداع على إتساعه وإختلافه مليئ بالتناقضات وبعيد جداً عن المثالية، يد المبدع الخبير قد لا تمتد لمساعدة مبدع يحاول شق الطريق للتعريف بمشروعه الإبداعي ويجهل قنوات نشره وسبل تطويره، تماماً ككل المناصب والكراسي المتنازع عليها في هذا العالم، بعض أصحاب الخبرات يحاولون الحفاظ على أمكنة بطبيعتها تحتمل وجود الجميع لكنهم يستأثرون البقاء فيها وحدهم.

الكثير من الإبداع تلاشى في مهب الظروف أو أصبح ضئيلاً عاجزاً عن إخراج ذاته، لأن المبدع إحترق من الداخل وطُعن في إبداعه وأضحى يعاني من سكرات الإبداع.. 

ويبقى السؤال..

أخلقنا ليندثر الإبداع الذي يحرك أرواحنا ويغذِّيها بالأمل؟