
في الوقت الذي نُجمع فيه على أثر الكلمة وقوة تأثيرها، تأتي الأحداث بدروسها كي ندرك كم أن الكلمة مُرعبة، بل ومُرهبة، ولها من القوة ما لا يملكه جيش مُحارب قوي العتاد، ذلك أن الكلمة فكرة، والفكرة خطر عنيد، خاصة إذا ما انحرفت ولو قليلاً عن مسار المجتمعات وقوالب أفكارها الراسخة والمتوارثة عبر الزمن. الكلمة ممارسة الفكرة واحترافها، ذلك ما يجعلها تثير الفكر المناقض وتحثه بجدّ على التفكير وقد تهز ثوابث كان من المرجح أنها راسخة فجاءت الفكرة وهزت استقرارها، ومن هنا يتولد الخوف.
الذين يحاربون الكلمة خوفاً منها، هم الذين يمكن للكلمة أن تهاجمهم منتحلة بعض المفردات كمفاتيح سحرية مخترقة نقاط ضعفهم. حدث قديماً جداً أن ورِث موسوليني الخلافة بأمر القانون إثر سقوط الخلافة العثمانية ومنح نفسه لقب حامي الإسلام في ليبيا، بعدما أُخمدت الثورة الليبية الشهيرة بدموية شديدة، وبعد عقدين من الحرب استطاع موسوليني بخطاب مؤثر استمالة بعض الليبين بما يتناسب وعقائدهم بمباركة من تبقى من القادة المسيسين والذين أضعفتهم الحرب، ودعا إلى السلام والعدل واحترام الإسلام، ذلك السلام الذي لم يؤمن زعيم الفاشية ومؤسسها به يوماً، واعتبره منهجاً ضعيفاً متعفناً لا يمكن أن يتبناه في سياسته، بينما دخل بكلماته المسالمة ليبيا من أجل غاياته حاملاً سيفاً فخرياً سمي ب“سيف الإسلام”، ولم تكن غاية موسوليني حينها سوى استخدام الليبيين كجنود في الحرب العالمية الثانية بعد أن ضم ليبيا إلى ايطاليا وبالطبع لأهمية الساحل الليبي وموقعه. حدث ذلك علـى الرغم من موجات جدل عالمية أثيرت حينها معظمها جليّ لا يخفى وضوحه على أحد، تؤكد على نقيض ما حدث ظاهراً، كأن يحمل لقب الخليفة موسوليني غير المسلم والذي ليس لديه دراية بالإسلام، بالاضافة لقصة السيف اللغز وكثرة الروايات حوله بأنه مهدى إليه مرة من الصوفية ومرة من اليهود وبأنه مزين بصليب فكيف يكون سيف الإسلام، العبرة من كل ذلك بأنه جاء بخطابات وأفعال موائمة للعقائد والأفكار استطاعت مع كل النقائض الواضحة أن تُحقق غايات لم تحققها الحروب السابقة، رغم حساسية الأمر وخطورته.
قبل عامين قُطّعت أوصال جثة خاشقجي عقاباً له على كلماته وليكون مصيره عبرة لكلمات أخرى قد تخرج من أفواه تسكنها، الكلمة هنا كانت من نوع آخر، لم تأت ككلمة موسوليني مغايرة لتاريخه الدموي وخطته المكشوفة، هي من ذلك النوع ذي الحديّن، أحدهما يلامس أفكار البعض ويقترب منهم وينوب عنهم، والحد الآخر يعارض سلسلة محكمة من القيود قد يُرخي وثاقها ويضعفه، وخوفاً من تحول الكلمة من السكون إلى حجر أساس مُقاوم، كانت النهاية التي شهدناها، ذلك أن الكلمة سؤال، والسؤال غالباً فكرة، والفكرة شر لا يمكن درؤه، أما الجواب فمثقل بالمعاني.
كذلك أرهبنا موت الصحفي الأردني تيسير النجار الذي أماتته تبعات نشره لكلماته، حتى عمّ الصمت، وأعني صمتنا نحن لا صمته هو، فهو قال كلمته بشجاعة حين أراد، وترك لنا الخوف من كلمته ومن نهايته، لقد حاول بعد كل ما تعرّض له، مواجهة الكلمة وتبنيها، وعن الكلمة واصراره كتب “منحاز إلى الحياة . لم أكن منحازا للحياة مثلما هو حالي الآن . في سنواتي الماضية خسرت الكثير ..الكثير … إلى الحد الذي يجعلني أقف ضد الموت بكل جرأة ، وقوة ؛ تلك هي قوة الحياة : قوتي حيث للكلمة شرفها ،وموقفها، ومداها الذي يتسع بمحبة الله ورضاه.”
وجه آخر للكلمة غيبه الموت، نوال السعداوي، الباحثة المتفق على جرأتها، والمختلف على فكرها وكلمتها وفعلها وتصريحاتها، لم ينصف الموت تاريخها المليئ بالعلم والبحث والتجربة، العقلية التي قابلت موتها بالشتيمة ونصّبت ذاتها حارسة للجنة والنار لم تقرأ السعداوي أو تطلع على أي انجاز قامت به، تمسكوا فقط بإلحادها وظنوا أنهم بشتيمتها وإدخالها النار بواسطة دعواتهم أنهم يحمون دينهم الرحيم البعيد عن التشفي بالميت، فكيف يمارسون ما ينهى عنه الدين دفاعاً عنه؟، قرأت بعض كتب نوال السعداوي في صغري، كتبها كانت في مكتبة أمي فهي درست “علم النفس” في الجامعة واحتفظتُ بها، أذكر أن أكثر ما شدّني حب نوال السعداوي الفريد “للمرأة” التي ظُلمت مراراً باسم الدين والقانون والعائلة والمجتمع، لعقلها وجسدها وحياتها ولكينونتها. بعد ثورة عقابها وجلدها على منصات التواصل الإجتماعي التي لم تصلها في موتها، أتساءل، لماذا يخاف البعض من الاستماع لما يخالف فكره أو إيمانه؟ إذا كان إيماناً قوياً، أيهزه فكر مختلف؟.أكثر المقاطع تداولاً على منصات التواصل الاجتماعي كان بعيداً تماماً عن الدين، بل يختزل بدقة، فكرها السياسي والاجتماعي والنسوي، حين قالت، أدعو الفتاة إلى العمل دائماً هكذا ربيت ابنتي، المرأة التي لا تستطيع اطعام نفسها تبقى ضعيفة، تماماً كما الدول التي لا تطعم شعبها تبقى ضعيفة وأسيرة لحكم الدول العظمى، موتها استحقاق، المرسى الأخير لحياة الإنسان، ليس مسرحاً للكراهية أو التشفي الذي يترفع عنه صاحب الإيمان الحقيقي.
الكلمة تتعدى كونها قولاً، هي فعل عنيد.