كتاباتي

عبء الرجل الأبيض وعقدة العربي الأسمر

يبدو أن عبء الرجل الأبيض تعدّى مفهومه السياسي العنصري على اتساعه و تجاوز تأثيره القديم وما نتج عنه من حروب واستبداد مردها تميُّز وترفع العنصر الآري عن غيره من الأجناس البشرية منذ القرن التاسع عشر، وكأنه بفعل الزمن وسع نطاقه بحيث أصبح أيدولوجيا اجتماعية ضيقة الأفق عند البعض كرغبة لممارسة سطوة التحكم بالآخر، وكأننا خلقنا نحمل انتماءاً ذاتياً لما يشبهنا حد التوأمة ونرفض الاختلاف لوناً أو شكلاً أو فكراً.

رغبتنا الفطرية بالإنتماء إلى مجموعة ليست حديثة، منذ آلاف السنين راحت الجماعات الإنسانية تتجاذب وتتعارف وتلتقي بما يشترك بينها وبذلك نشأت القبائل، حينها كانت تشترك الجماعات باللغة والمعرفة والمهنة وبالطبائع والأصول، وبالشكل واللون وحتى بالأحلام والهموم والحروب والأساطير والخرافات، ولا شك نتيجة لذلك خلقت الأعراف التي ما زال بعضها مترسباً في داخلنا ويأبى الإندثار. وعلى الرغم من سلامة الفطرة الإنسانية التي قادتنا إلى التجمع والإلتقاء ظهرت الأنساب والأصول وما لحقها من التفاخر بما تشترك به الجماعة الواحدة ويميزها عن الجماعة الأخرى. فكان العربي قديماً يؤمن إيماناً مطلقاً بأنه الأفضل وأن من يخالفه بعروبته أدنى منه أصلاً ومعرفة ولا يمكن أن يجاريه مكانة إلا عربي مثله، بينما اجتمع الأوروبيون على لغتهم اللاتينية ولونهم الأبيض الذي ارتقوا به على سائر البشر كما كان اعتقادهم وكأنهم نوع خاص من البشر لهم فكر أفضل وأحقية بالوجود، فصارت رسالة الرجل الأبيض أو عبء الرجل الأبيض حالة عنصرية بذاتها نمت جغرافياً وزمانياً بحيث أصبحت مبرراً استعمارياً كون الدول التي تنتمي لرسالة الرجل الأبيض -كما لو كانت رسالة من الإله- لها الأفضلية ولا تبلغ الدول الأخرى مبلغها من القدرة والمعرفة والدراية وانتهى بنا الأمر تابعين لاستعمارهم على أشكاله المختلفة حتى أحدثها الذي يأخذ شكلاً اقتصادياً ومعرفياً مدمراً لماضينا وهادماً لحضارتنا.

اليوم يعيش العربي في سديم فكري وتوجهي متناقض لا ثوابت له، لا يعلم إن كان يتبع نفسه أو غيره، ولا يدرك إلى أي حدود تسيِّره سطوة الإحتلال العقائدي واللغوي والإجتماعي فقد احتل الغرب داخلنا وتملّكه بدعوى خفية وصامتة بالإرتقاء والسمو، ولم نعد نتفاخر بشيء نملكه بل بأشياء نتبعها وننساق خلفها كما لو أننا نعبر نفقاً معتم آخره بريق مبهم لكنه مثير.

ما يشبههنا اليوم مختلف عما كان يشبهنا بالماضي وبمعنى أدق ما يجمعنا اليوم هو الذي اختلف، فلم تعد اللغة أو الدين أو الجغرافيا تجمعنا بل لم نعد ندرك ما يجمعنا أو يفرقنا على وجه التحديد، لأن ثقافتنا أصبحت محصلة لعدة ثقافات وفقدت أصالتها، جزء كبير منا ينتمي للغرب لغة وعلماً وثقافة إنتماءاً أعمى، وجزء آخر وهو الأخطر رافض للحداثة والغرب كالنقيض حد التطرف، قلة فقط تحاول أن تُبْقي على موروثها وأن تنهل من خيرات الغرب العلمية لخلق حالة متوازنة من إنسان بملامح عربية ولسان عربي وفكر يجمع الغرب والشرق بعقلانية وانفتاح ذكي.

نحن أمة تخلت عن نفسها في المقام الأول، مساحة تقاربنا أصبحت ضيقة جداً، الحرب غدت علمية والثورة تكنولوجية وآثارها مادية ونفسية، الغرب ما زال بثورته العلمية يدَّعي التفوق على باقي الشعوب، هم يؤمنون بأنفسهم ونحن نؤمن بهم ونثق بتفوقهم، رغم آلاف المبدعين العرب الذي يعود تفوقهم لقدراتهم بالدرجة الأولى وللتفوق الذاتي والفردي للإنسان، خساراتنا المرهقة محت ثقتنا بعروبتنا بماضينا وحاضرنا، وأما من يعترف بأصالة عروبته فهو كالقابض على جمر ماضيه.

كتاباتي

عبودية المال

لكأننا ننتقل بين عبودية وأخرى يختلف الظاهر لا شيء سواه، الجوهر العميق هو ذاته، وإن لم نلحظ الأمر، فحبكة الأحداث متقنة بحيث تفرز من جعبة الواقع أسماءاً وألقاباً براقة، لن أدَّعي بأنها مزيفة لكنها تتزين بما يريح نفوسنا فنعيش بفوضى وهجها اللاذع، ونخطئ حين تمتلكنا فوضانا ولا نملك حق القبض على ضياعنا في شِركها.

صحيح أن العمل واجب انساني، نتكئ عليه ليسندنا على أعمدة الحياة الهشة، لكنه أضحى معركةً للوجود، وغايةً أكثر من كونه وسيلة. قديماً في زمن الرق كانت الحروب تسعى لإنهائه لامتلاك الحرية كحق إنساني أوليّ، حينها كان امتلاك الإنسان لانسان آخر وتسخيره للعمل ظاهرة استحقت أرواحاً وحروباً لتتلاشي، لكنّا ما لبثنا أن سلَّمنا أنفسنا عن طيب خاطر لظواهر أخرى لا حرب يمكنها ازاحتها لاننا مفتونون بها، وأضحينا ثوّاراً ضد أنفسنا لا من أجلها، وانصهرنا في نسيجٍ ماديٍ خانق، ومملوكين بإرادتنا الكاملة لمفردات مختلفة، العمل، الثروة، المال، المناصب، وجميعها ليست الا رق محدَّث، عُدِّل ليصبح صالحاً لزماننا.

نخطئ إذ نظن أن العمل وما يلحقه من مال وحده يصنع لنا عالمنا الخاص أو يخلق لنا حياة نملكها منذ التقطنا أنفاسنا الأولى، ووَهْمٌ كبير نعيشه في فقاعة غليظة، فالعمل يصلح لأن يكون نتيجة حتمية نتمكن من الحصول عليها بعد سنوات علم طويلة، نوثِّق خلاله ما نما وتخمر من أفكار وخيال في عقولنا ليصبح حقيقة، وبه نتمرس صناعة الحياة، ويفتح لنا جبهات تواصل على عوالم وظروف أخرى، لم نكن على دراية بها من قبل، وهو جسر عبور لثقافاتٍ ولغاتٍ وخبراتٍ، وسَفر روحي عميق المطاف، ولو لم يكن الأمر كذلك لبقينا في رقعة بالية لا تطأها الحداثة.

لكن، هناك من يتناسى كون العمل جزءاً من حياته، يحتاج اليه ليمهِّد جوانب أخرى من الحياة، وكأنه تحوَّل الى كائن بلا خيار، أو لعلّه كائن رافض لأن يختار، حاصره طموحه بأفق لا محدود، فغاب في زحام الأرقام وسراب الألقاب، وراح يكافح بتوكيد كينونته في الغياب أكثر من الوجود.

لا أميل الى تكرار مفهوم العمل المأجور ورأس المال، فقد تركت الأمر لماركس الذي ألّف ما يكفي من الكتب وألقى ما يفوقها عدداً من المحاضرات، وللثورات العمالية وللصراع بين الرأسماليين والشيوعيين وما نتج عنه من مناظرات ما زالت شعلتها ملتهبة الى هذا اليوم، بل أميل إلى تأمل أولئك الذين يستعبدهم العمل والمال بحيث لا يعرفون من الحياة شيئاً آخر سواه، أيكونوا فقدوا شغفهم نحو الحياة، أم فهموا أنه هو الحياة بذاتها؟

عالم الأعمال يشوبه ما يشبه الإدمان، كثيرون من أصحابه يهجرون الحياة طمعاً بمؤشر الأرقام الذي يتصاعد في حساباتهم، متصوفون في دنيا المال، وكلما حققوا رقماً جديداً بدأوا بانتظار ما يزيد أرصدتهم، حتى أنهم يرون الأشياء بأرقامها لا بمعانيها وآثارها، كيف ينجوا هؤلاء من حمَّى الأرقام؟

بيل غيتس صاحب اللقب الأكثر بريقاً، كونه “الرجل الأغنى في العالم” وإن كان قد أمضى حياته بين أضخم الأرقام وأعلاها قرر أن يهب لأولاده حياة من بعده بعيدة عن ملياراته بحيث لا يورثهم ثروته ليتسنى لهم اكتشاف الحياة دون غطاء ملياراته السحري، وهو النهج الذي اقتدى به جاك ما فقرر أن يترك اللعب بملياراته الأربعين، حتى يتفرغ لما يشغل به شغفه وهو العمل الخيري في مجال التعليم. أحد أغنياء النرويج تبرع بثروته، لتمويل سفينة أبحاث علمية من شأنها التوصل إلى حل لتنظيف المحيطات من البلاستيك، وهو الذي بدأ حياته كصائد أسماك. أهو شيء من اليقظة ألهمهم أخيراً ليكون لهم وجود آخر أرقّ من جولات الأرقام.

البعض بحاجة لكاشف حياة، حتى لا يكون المال أو مرادفاته المادية الفارق الوحيد بين عبوديتنا القديمة وما طرأ عليها من تحديث، فنحن نرتقي بأنفسنا حين نهذب خطوات الزمن وهي تجري على حافة أعمارنا.

كتاباتي

“عندما يختلف اللصوص تظهر الحقيقة”

بعض الحقائق لا نراها رغم وضوحها، نُخفي رؤوسنا في حضن أحداثٍ أكثر قبحاً من الحقيقة ذاتها فتغيب عنا لسنوات، وربما لعقود أو قرون. هكذا هي الحقائق مكرها في وضوحها الخفي.

اجتهد الكثير من كتاب التاريخ السياسي لربط الأحداث ووضعها في قالب يسهل علينا فهمه، منهم من ينسب مصائب الكون وحروبه وثوراته للحركات العالمية مثل الصهيونية السياسية، والشيوعية، والنازية، والحركة الثورية العالمية، والماسونية، وجميعها مرادفات لرؤية واحدة، ويأتي ذلك كله في سياق يبدو مدهشاً للوهلة الأولى ثمّ يتضح أنّ كثيراً من الروايات كانت مكشوفة لمن أراد أن يُبصرها وأن ما اتضح لاحقاً مجرد تفاصيل تثير شعلة الحقيقة ليس أكثر، بعض كتاب التاريخ السياسي يَسلُم إثر اجتهاده، وبعضهم يتم اغتيالهم وذنبهم الكبير وضع الحقيقة في مسارها، ربما اختلف قليلاً مع فكرة نسب كل الأحداث للمؤامرة الكونية، لكن شيئاً واحداً علينا أن نتفق عليه أن التاريخ يكرر نفسه وإنْ اختلف أشخاصه وزمانه ومكانه.

الثورة الفرنسية مخطط مكرر
تُرجع الكتب والتحليلات الاقتصادية والتاريخية السبب وراءها إلى مخطط مدروس نفذ ببراعة لإشعال الثورة الفرنسية، وكان يهدف الى المناورة بثروات #فرنسا وبالتالي خلق ظروف اقتصادية خانقة للشعب تدفعه إلى الثورة على أن يتحمل البلاط الملكي ممثلاً بالملك والنبلاء حوله المسؤولية وفي الوقت ذاته يندس مجموعة من المحرضين ليبثوا شحنات من الكراهية بين أفراد الشعب لتشيع مشاعر الانتقام من الحكام. وهو ما حدث بالفعل.

وبحسب الروايات أن مايلر روتشيلد (ابن عائلة روتشيلد اليهودية الألمانية المصرفية التي كانت على مقدرة مالية لتمويل الدول والثورات) ألقى ذات مرة خطاباً كشف فيه خطته، وقال فيه: ”لأن الناس تميل إلى الشر فالوسيلة الأفضل للحصول على نتائج سريعة هي استعمال العنف والارهاب وليس المفاوضات“، وكشف كيف تم تنظيم الثورة الإنكليزية مسبقاً وكيف عليهم تفادي الأخطاء التي أُرتكبت آنذاك.

ماري انطوانيت والمقصلة وعقد الجوهر
سمعتها السيئة، خياناتها المتكررة لزوجها مع أصدقائه، وصورتها الراسخة كامرأة لعوب وغير آبهة بالشعب وهمومه هي صورة نمطية تبناها كثير من رواة التاريخ ودارسيه، لكن العديد من الكتب أنصفتها لاحقاً، على أن ذلك ليس الا جزءاً من حملة تشهير مقصدها جعل الشعب يطالب برأسها بعد قيام الثورة، وقضية عقد الجوهر من أشهر القصص التي أثيرت، ففي الوقت التي كانت تعاني فيه خزينة الدولة الفرنسية الأمرين، حمل أحد العملاء طلباً مزواً من انطوانيت إلى جوهري البلاط الملكي بصناعة عقد يقدر ثمنه بربع مليون ليرة فرنسية، وحين قدمه اليها الصائغ نفت أن تكون قد طلبته لكن القصص حوله كانت قد انتشرت وزاد غرق انطوانيت في وحل الغضب عليها.

ضريبة الشاي
بينما يؤكد المؤرخون أنّ سبب الثورة الأميركية على انكلترا هو اقرار “ضريبة الشاي” على المستعمرات الأميركية حتى سمُيّت ثورة عام 1779 بثورة الشاي، إلا أن بينجامين فرانكلين أحد أهم مؤسسي الولايات الأميركية اعترف بأنّ السبب الحقيقي وراء الثورة هو مصادرة من بريطانيا حق إصدار النقد من الولايات المتحدة، فأدى الى انتشار البطالة وخلق أزمة مالية أدت إلى نشوب ثورة انتهت باستقلال الولايات المتحدة وازدياد الدين القومي في بريطانيا وبالتالي إضعاف الامبراطورية البريطانية وهو الهدف الأهم وراء اشعال الثورة.

قبيل الثورة الروسية
في نهاية ثورة 1905 تولى رئيس الوزراء ستالين حملة اصلاحات كبيرة، وقام بإصدار “قوانين ستولين” التي منحت حينها حقوقاً مدنية للفلاحين الذين كانوا يشكلون غالبية الشعب الروسي، وكنتيجة للإصلاحات صار بمستطاع الفلاحين شراء وامتلاك الأراضي. ومع ذلك نهاية ستولين كانت اغتيال أكبر وزير مصلح عرفته روسيا، لأن الاصلاح ليس المطلب الحقيقي لدعاة الثورة وإنما احتكار السلطة.

ما أرمي إليه أن القصص على مر التاريخ متشابهة، والأمثلة لا تنتهي، الثورات، والانقلابات، والأزمات الاقتصادية، والحصار، وبدايات الحكم، ونهايات الحكّام، أليس لنا في ذلك كله عبرة؟ أم أننا سننتظر لصوص زماننا ليختلفوا فتُكْتب الحقيقة على ألواح الحسرات، بالرغم من أن بعضهم قد اختلف فعلاً وكُشِف مستورهم، ألا تكفي العراق واليمن وأفغانستان، كما أن التاريخ بمجمله يروي الحاضر والمستقبل.

كتاباتي

من يهزم جذور الزيتون؟

من يهزم جذور الزيتون!

منذ أسابيع شاهدت فيلماً وثائقياً يعرض الانتهاكات التي يتعرض لها سكان احدى القرى شمال الضفة الغربية في فلسطين ويوضّح مدى أثر بناء جدار الفصل العنصري ويعرّج في كثير من مشاهده إلى المقاومة الشعبية السلمية لسكان القرية. في أحد مشاهده كان الفيلم التسجيلي يوثّق شهادة سكان القرية ومدى ارتباطهم بالأرض وبأشجار الزيتون والبرتقال التي ورثوها عن أجدادهم وكيف قاموا بزيادة أعداد الأشجار المثمرة على مساحات أكبر من أراضيهم، إلى أن رصد الفيلم في مشهد آخر قوات الاحتلال وهي تقتلع أشجار تاريخهم المثمر لتبسط بجرافاتها مساحات جديدة لمستوطناتها، وبينما كانت تتنقل الكاميرا بين بكاء نساء القرية ودهشة رجالها كانت مجموعة من الأطفال يهتفون ويشيرون بحماس بالغ إلى أنهم وجدوا ضالتهم التي انشغلوا بها خلال بكاء أمهاتهم وسط حصار الأشجار الممدة بثمارها كركام ثقيل وجنود الاحتلال المدججين ببنادقهم، وآبائهم الذين يحاولون لملمة إرثهم ورثاء ماضيهم المسجى بعواطفهم ليُدفن حياً حاملاً ثماره، أما الأطفال فكانوا فرحين يهتفون بأنهم وجدوا جذور شجرة زيتون ضاربة في الأرض. وكما ترك الأطفال الدمار ولحقوا الحياة في جذور الزيتون تركتُ أنفاس الحضور المشدوهة ثملة بالوجع معلقة على مشهد الدمار ذاته، ولحقت قدرة أولئك الأطفال على اصطياد الأمل من عمق الظلام.

تستهويني تلك العبر والمشاهد وتثقلني بالهواجس والأفكار فأغادرها محملة بمعانيها، ذلك أننا نتكئ على الفزع كلما رشقتنا التجربة بنارها فهو حجتنا الواهية، ويرمينا في نهايات حالكة نعانق الخوف ونستجدي الانتظار بعد أن نحكم اغلاق فسحات متناثرة في جدران أحزاننا كانت لتسمح بتسرب بعض الأمل، ليس بإمكان الأمل أن يعرّف عن نفسه وكأنه يخط وجوده على لوح كبير أنه مازال موجوداً وعليكم فقط أن تبحثوا عنه، بعضنا خُلق ليقاوم، ليبحث عن مرادفات للحياة في كل عثراته، ليعيش بطولته المطلقة ويمارس إيمانه العميق، إيمانه بنفسه، بذاتٍ جسورةٍ، وحده يعرف قوتها، يبحث عن مراده المختلط بالرماد. أولئك بمقدورهم أن يصنعوا أسطورة بقائهم حين تلهو الحياة بهم بقسوةٍ لا يجرؤون على توقعها في اختبار جديد لوجودهم.

يتبنى المتفائلون نظرية الكأس الممتلئ ويتهمون المتشائمين بأنهم لا يروون سوى النصف الفارغ من الكأس، لم يحدث أن اختبرت نفسي في كأس الماء فقد سمعت في صغري عن النظرية الكاملة مع شقيّها فرأيت الكأس بنصفيه الممتلئ والفراغ، لكني أحاول تمرّس الإصرار كلما تعثرت فلا شيئ غيره يعفر أنف الهزيمة لتبتعد بظلها عني؛ الإصرار ممارسة إيمانك بذاتك ليس أكثر.

معظمكم سمع قصة المزارع الذي باع مزرعته ليرحل الى دولة أخرى ويمارس مهنته في أرض أخرى حين ذاع صيت بأنّ البلاد التي سيرحل اليها أراضيها خصبة للغاية ويجني منها المزارعين ما لا يجنيه في بلاده، لكنه تفاجئ حين اتضّح أنّ أرضه الجديدة مليئة بالأفاعي وغير صالحة للزراعة، فلم يرَ ذلك المزارع نص كأس ممتلئاً لأنه كان مشغولاً بكأس تطفو منها الكنوز فعرف كيف يناور فحيح الأفاعي ويحوّل سمومها الى أمصال ولقاحات طبيعية فحوّل محصول أرضه إلى تجارة تجاوزت أفق أحلامه.

من منكم باستطاعته أنْ يلمح كنزاً مختبئاً وراء سم أفعى؟ الهزيمة ليست في مواجهة العقبات بل في مواجهتنا لأنفسنا.

هناك من باستطاعته أن يرى قطرة ماء منسية في قاع كأس بدا للجميع فارغاً.

أهناك من  باستطاعته أن يهزم جذور الزيتون حين يبحث عنها طفل يرى الحياة في جذر صغير؟

لا أحد

كتاباتي

رجل صالح للطلاق

يحدث وأنتِ تسندين رأسك على كتف رجل وترمين ثقل أفكارك وهمومك على مسامعه لأعوام طويلة، وتمارسين دوراً وردياً حلمتِ به سنوات طفولتك وشبابك المبكّر، ثم مارستيه بحب في نضجك وذوّبتي هفواته بقلبٍ أتقن محو الذنوب، أن ينقلب دفء الكتف الذي كنت إليه تستندين؛ إلى جمرٍ تعجزين عن مداواة حروقه وتشوهاته الضاربة في عقر عاطفتك. كما يحدث أن يصبح الجنون واقعاً عادياً.

كنت أقلِّب ذاكرتي وأفتش في حجراتها التي تحتفظ عادةً برواياتٍ قديمةٍ تبقى نائمة حتى يأتي حدثاً جديداً يوقظها، وأيقظتها قصة سيدة انقلبت حياتها إلى سعي وراء حقوق كانت تعتبرها أساسية، حين قرر زوجها وضع حد لحياتهما المشتركة بالطلاق. صدمتها لم تكن بانهيار زواجها لقرار لم يشاركها به، بل بزوجٍ كانت سنده وظنته سندها على مدى عشر سنوات، حوّله قرار تلاه لها ببضع كلمات حاسمة إلى غريبٍ يطالبها بترك منزله والانسحاب من حياته بعد أن تلملم أثر سنواتها معه، لأنه يرغب في حياة لا مكان لذكراها فيه. ولم أجد خلال بحثي في ذاكرتي، قصة طلاق عربية تمت وهي تراعي الحد الأدنى من إنصاف المرأة، التي تصبح في لحظات كائناً من أسئلة حائرة لا تملك إجابات لها ولا يملك هو ما يشفي دهشتها، وقد غدا كل منهما على قمة جبل وراح الوادي بينهما يتصدّع أكثر عند طرح أي سؤال لأنّ الحقيقة التي تظهر في لحظة تخفي ركاماً من خفايا كانت غير مرئية.

صحيح أنّ الخطوة الأولى نحو الطلاق، الزواج! كما قال الراحل أنيس منصور يوماً. فالطريق الممهد بالوعود والمفروش بباقات من أحلام انتهت بالزواج ليس ذاته الطريق الذي يسلكه الرجل عند الطلاق. لا أتوقّع بالطبع أن يكون الطريق المؤدي إلى الطلاق كما هو في الزواج، لكن الرجل القادر على قطع الوعود والإيفاء بها في زواجه والالتزام بمسؤولياته اتجاه زوجته، ألا يجدر به أن يكون أكثر إنسانية بوعوده والتزامه نحو سيدة كانت قبل طلاقه شريكة لحظاته كلها، بدلاً من أن تحطمها رياح قراراته. لأنّ الرجل غالباً يمضي في حياته بعد الطلاق كأنّ الجزء الطويل الذي كانت بطلته لم يكن يوماً، بينما تختزل المرأة جلّ حياتها في سنواتها معه.

أتفكّر المرأة في مرحلة الحب كيف سيكون سلوك رجلها إذا أراد أحدهما الطلاق؟ كما تفيد شواهد الحياة حولنا سينقلب الزوجين إلى متصارعين على حلبة عواطف مشحونة بالمفاجآت. وجواب السؤال، “لا”، لا تبحث المرأة عن رجل صالح للطلاق كما تبحث عنه للزواج، رجل ينصف ماضيه معها، ويحترم فشل العلاقة الزوجية على أن تبقى إنسانية، فهذه الصورة تبدو فانتازيا شبه مستحيلة.

النهايات الحزينة ليست قصص الحب التي لا تنتهي بالزواج، ولا حتى الزواج الذي ينتهي بالطلاق، فتلك النهايات بدايات مجردة باستطاعتها أن تغادر رواسبها وتتخلى مع الوقت عمّا علق بها، وتنسى ماضيها بلا أثر، بل هي تلك النهايات التي تولد بها شخصيات دفينة لم نكن لنعرف وجهها القاسي لولا النهاية، والتي تسقط الزوجين من سماء الحب إلى هوة الصراع.

القانون، والعادات، والثقافة السائدة، والموروث، جميعها مرادفات لهدر حقوق المرأة، ليس غريباً إذاً أن يكون الطلاق وحشاً صامتاً تهاب المرأة طيفه إن حام حولها.

عيشي حياتك كما لو كان السلام عطرك، واحتفظي بأسلحة الحياة كما لو أنّ صفارة الحرب تنذرك بوقوعها، فنحن نعيش عالماً يقطر خيالاً أكثر من كونه واقعياً.

كتاباتي

الحيلة شريعتنا الأولى

خدعونا حين علمونا أن الحرب خدعة، كان الأجدر بهم أن يعملونا أن الحياة خدعة، والأجدر بنا ألا نصدق شيئاً.

لسبب ما تحكمنا الحيلة، منذ بدأ الانسان اكتشاف ذاته، ثم تجاوزها للتواصل مع الآخر، بدأت حربه النفسية بالنضوج وأخذ صراعه مع ذاته يعظم، كان عليه أن يتوازن بينما داخله مليء بصراعات حية، وليحمي وجوده راح يحتال على نفسه ليقيها من شرورها، ويتصدى لهزائمه، فالهزيمة باب واحد؛ أن ترى الحقيقة كما هي، نحن ننتصر على الحياة بانتصارنا عل أنفسنا. هكذا بنى الإنسان منا كائناً يدافع عن نفسه من هجمات الحياة بالحيلة، وسماها علماء ميكانيزمات الدفاع، ولفرط قسوة الحقيقة المجردة صار يرى في كل شيء الصورة الأقرب إلى قلبه، لكأن ثمة إجماع لدى الناس على تهذيب الحياة لتصبح ممكنة. تقول احدى الدراسات إنّ عقولنا تعمل باستمرار بوعي ودون وعي، على تجاهل الكثير من الأمور التي تكدر حياتنا وتسعى لتجميل العديد من المواقف والأشياء بفعل أنظمة أدمغتنا القادرة على استعمال الحيلة للدفاع عن حقنا المشروع في ممارسة الحياة.

لنكن واقعيين، نحن نمارس الحيلة طوال الوقت، فحتى العناوين التي تتصدر سبل وطرق ترويض المشكلات معظمها قائمة على فنون ممارسة الحيلة، وإن لم يتم الإشارة إلى الحيلة بصورة صريحة، ويسري الأمر ذاته على عواطفنا وعلاقة العمل مع الزملاء والمدراء، وبالتأكيد تبدأ من علاقة الشخص بنفسه، ولتستحق الحيلة تقديراً أكبر، مُنحت أسماءاً مرادفة كفن التأثير على الآخر وعلى الذات.

وبفن التأثير ذاته شرع حمورابي ٢٨٢ قانوناً تضمنت معظم جوانب الحياة حتى أنه كان أول من وضع حداً أدنى لأجور العمال، “في ذلك الوقت .. نادتني الآلهه، أنا حمورابي، الخادم الذي سرّت من أعماله، والذي كان عوناً لشعبه في الشدائد، والذي أفاء عليه الثروة والوفرة، أنا أمنع الأقوياء أن يظلموا الضعفاء، وأرعى مصالح الخلق”. لا يمكنني إنكار قوة حمورابي وتفوقه وتاريخه الحافل، لكنه بسط نفوذه أيضاً بفعل ربط ذاته بالآلهة ليعطي شرعية أقوى وهو ما بدأ به شريعته، لعل الفارق بينه وبين غيره من الملوك في ذلك العصر كما يروى أنه وصف نفسه خليلاً للآلهة ولم يجعل من نفسه إلهاً، ثم عاد وأكد بحيلة نفسية أخرى على جبروته حين سنّ قانوناً جزائياً وحشياً الى حد بعيد، متبعاً نهج انشر الذعر لتحصل على ما تريد.

وبفن التأثير، أو الحيلة، أو المؤامرة، كما شئت أن تسميها، حيكت كبرى المكائد السياسية والحربية والاقتصادية، لا شيء منها طرح على طاولة الحقيقة المطلقة جميعها أخذت أشكالاً وأسماءاً أخرى، أحد الكتب الذي يروي تاريخ الصهيونية، ذكر كيف أنه في الوقت ذاته الذي كان يكتب فيه ماركس البيان الشيوعي تحت إشراف مجموعة تُسمى” النورانيين “، كان كارل ريتر يكتب النظرية المعادية للشيوعية تحت أشراف مجموعة أخرى من النورانيين زعماء الصهيونية ،بحيث يتسنى لرؤوس المؤامرة العالمية تفريق الأمم والدول لانقسامهم في معسكريين مختلفين، لما لا فالحيلة فن والحرب فن، ولم يعهد الكون يوماً عاش فيه بسلام.

كان استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية حتمياً حتى وإن رفضت إعلانه رسمياً وتجاهلت قرار مؤتمر بوتسدام، جميع التقارير والتحليلات السياسية تؤكد أنّ التسليم كان مسألة أيام لا أكثر، لكنه كان حجة لاستعراض أسلحة أمريكا الهمجمية وقدرتها على الدمار الشامل والسريع أمام ستالين الذي كان يطمح بأن يمتلك قنبلة ذرية كالولايات المتحدة، واستعراضها أمام العالم أجمع، حتى وإن كانت تكلفة هذا الاستعراض الهمجي أكثر من مئتي ألف قتيل مدني. وهذا ليس بالشيء الغريب فحرب تحرير العراق من الدكتاتورية كما سمتها أمريكا، هي ذاتها التي حولت العراق الى ما نشهده اليوم، ولم تكن إلا حرب إبادة وتشويه لحضارة تعود الى آلاف السنين من أجل الحصول على النفط وتفكيك المجتمع العراقي ونشر المنظمات الإرهابية.

لم يضحكني خبر مفاده أن شرطياً تايلندياً يتنكر بزي ديناصور من أجل تنظيم حركة السير بعد أن شعر أن هذه الطريقة المبتكرة جعلت المارة والسائقين أكثر انضباطاً، أصبحنا نبتكر الحيلة وننصاع لها، القوانين وحدها لا تكفي، لا شيء بإمكانه أن يضبطنا سوى الحيلة، حتى أني أصبحت على يقين بأننا نؤدي أدوارنا حتى يتسنى للآخرين ممارسة حيلهم علينا إلى أن يأتي قرار افناء أثرنا لأن الحيلة قد تمت.

كتاباتي

فانتازيا المرأة

لمَ لا تكتب المرأة دستورها؟
أليست هي “أم الحياة” ومن سطر التاريخ منذ أول الخلق، وشاركت الرجل بداية العالم وصناعته؟ ألا تملك الحضارات القديمة والحديثة، تلك التي همشت كيانها، متسع من الفطنة لتعترف أن الوجود ذاته ما كان لولا وجودها؟

غالباً ما تتطور الأحداث والمفاهيم لتأخد عمقاً ومعنى أكثر تمدناً، مع قضية المرأة حدث العكس، تخلفنا عن موج التقدم، وخالفنا طبيعة الأشياء، نعيش مع حقوقها المسلوبة وكأننا لا نملك خياراً سوى استضعافها، وتقبَّلنا روتين التخاذل، على مرأى تاريخٍ غير مُعترفٍ إلا بجزءٍ مظلمٍ منه.

شيئ ما قلب نصاب الطبيعة ولم يعدها الى حيث كانت ثم توارثنا مسارها المنحرف، كما توارثنا خطيئة حواء ولعنة الأرض التي رست عليها وما لحقها من أساطير، ولا أعلم أي طبيعة تلك التي جعلت من النساء إماء على حد قول نابليون “إن الطبيعة هي التي جعلت من نسـائنا أمات لنـا “.

في الحضارات الأولى تؤكد آثار الطبيعة ورواسبها على شراكة المرأة والرجل في بناء شكل الحياة ولوازم بقائهما معاً ككيانٍ واحد، بل تفيد دراسات حديثة عن آثار مكتشفة تعود إلى العصر الحجري، على أن الرسومات على جدران كهوف ذلك العصر كانت من عمل النساء وليس الرجال، وجميعها توثق تلك المرحلة وتصف مراحل صيد الحيوانات كجزء من طبيعة الحياة وطرق الحصول على الغذاء وتؤكد الدراسات سيطرة المرأة في ذلك الزمن وقدرتهن على الصيد وما يرافقه من صعوبات، ثم مع تغير الحياة وتقلُّب الحضارات تقاطعت طريقهما على نحو غير شراكتهما الى النقيض وغيّر وجه مساواتهما الفطري. أيمكنكم أن تتخيلوا معي أن يكون ذلك العصر بقدمه وبدائيته أكثر انصافاً لإنسانية المرأة، من القرن الخامس عشر حيث اجتمع الفرنسيون لبحث أمر في غاية الغموض “هل المرأة إنسان أم غير إنسان”؟ وهل تملك روحاً كمقام الروح التي يملكها الرجل؟ ونحمد الله أنّهم أقروا بإنسانيتها، غير أنهم اجتمعوا على أنّ وجودها لخدمة الرجل لا أكثر. ومن الطريف أنهم لم ينكروا دورها في الانجاب وتربية الأطفال، والمضحك أن تنجب المرأة ولداً وتربيه ثم ينتمي الى مجتمع ذكوري ويراها عبدة خلقت لخدمته.

واليوم وقد تعافت المرأة من ظلم وقسوة  أشبه بالخيال، لكنها لم تتعافى بعد بالقدر الكافي والشامل، العديد من الدول ما زالت تعاملها كإنسانٍ ناقص، ولم تزل حرية المرأة مسرحاً واسعاً للجدل، ولا يوجد مفهوم عالمي متفق عليه لحريتها وحقوقها، فرغم اعتماد اتفاقية “سيداو”؛ الخاصة بالقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، في معظم الدول العربية، لكن الكثير من القضايا ما زال البت فيها نسبي بحسب طبيعة البلاد وثقافتها وقوانينها، وبخاصة ما يتعلق بالحضانة، وحرية التنقل، ونقل الجنسية، وجرائم الشرف.

في الديانات القديمة كما تروي الميثولوجيا، كانت الآلهة الأنثى صاحبة سيادة ومصدراً للحكمة، فقد كان الإله “زيوس” إله الحكمة يستمد حكمته من زوجته الآلهة “ميتيس” وهي إلهة الحكمة والقوة والحرب بل وحامية المدينة وقد وصفتها الأساطير بأن لها من الحكمة أكثر مما كان لكل الآلهة مجتمعة. وفي الحضارة الفرعونية اعتلت المرأة عرش الحكم، بل وهناك من اعتلت العرش عنوة كما حدث مع الملكة حتشسبوت حيث حاول الكهنة الوقوف في طريق وصولها الى عرش ورثته واستحقته.

إن كانت المرأة منذ بداية الكون قادرة على صناعة وتلبية ما تحتاجه ويحتاجه الرجل للبقاء، إذاً، لمَ لا تكتب المرأة دستورها، وتضع فيه ما يحميها من القوانين؟

أننجو يوماً من غبن التاريخ و انكسار روايته؟

من المهين أن نتقدم بالحياة وما زلنا نتناول حقوق المرأة في أروقة المؤتمرات والأجدر أن نرتقي أكثر بحقوق الانسان بعيداً عن جنسه، متبعين نهج النبي محمد “إنما النساء شقائق الرجال”.

كتاباتي

سقف الحياة

من الغموض نخرج إلى الحياة، ومن الحياة نرحل إلى الموت، وبين الشكوك نحيا ونتوارى خلف ثِقَل العبث. زحام النقيض يُنصِّب نفسه علينا، لم يعد في وسع الأيام تصدي قذائف الذهول، فلكل فجر نشيده.

بهذا الهوس، تناقل الإعلام مؤخراً حكايا عن الحياة وأخرى عن الموت، تشبه رقص الريح الثائر مع السكون. إحداها عن سيدة يابانية تجاوز عمرها الثمانين اختارت أن ترقص على منصة المسرح قبل أن تلقي خطاباً ألهمت فيه الحضور، وروت خلاله كيف أطلقت بنفسها تطبيقاً الكترونياً للهواتف الذكية يهتم بمهارات التواصل بين كبار السن، تلك السيدة بدأت رحلتها الاستكشافية في عالم التكنولوجيا بعد تقاعدها في عمر الستين، حين امتلكت أول جهاز كمبيوتر وامتلكت به كما تقول عالماً جديداً، جعلها تحلق فوق تلة أحلامها، تلك السيدة التي لا تعرف من الوقت سوى البداية ومن الحياة سوى الوجود، استطاعت أن تفك شيفرة الخلود، وتهزم أرقام العمر بنجاحها.

ويشببها بالنسيان، نسيان الهزيمة، رجل صيني مبتور الساقين، يصل أخيراً الى قمة افرست، بعد عدة محاولات سابقة، وبعد أن كادت القوانين أن تقف أمام حلمه الوشيك، حين صدر قرار بمنع مبتوري الساقين من تسلق جبل ايفرست، ثم ألغى القضاء القرار حتى لا يخلق حالة من التمييز بين الراغبين بالمشاركة. حاصره الإصرار منذ محاولته الأولى قبل أربعين عاماً التي انتهت ببتر ساقيه إثر تعرضه لنقص الأوكسجين بسبب تدني درجات الحرارة، وتكررت بعدها محاولاته حتى وصل الى القمة بظل ساق حفرت نصره علـى تجاعيد الصقيع، وأوجز إصراره ببضع كلمات “تسلّق قمة إيفرست حلمي وعليّ أن أحققه. هو تحد شخصي”.

لكن النصر لا يعني الحياة، فبعض النصر موت، “لست سعيداً، أريد أن أموت، آسف لأنني وصلت إلى هذا العمر”، هكذا برر العالم الاسترالي يفيد غودال قراره بالموت، رغم كل انجازاته العلمية، لأن حياته لم تعد كالسابق وأضحى الضجر رفيق سنواته الأربعة بعد المئة، مورثاً وطنه لوماً كبيراً لأنه لم يجعله يموت على أرضه فالقوانين في بلاده لا تجيز القتل الرحيم، مما اضطره للسفر الى سويسرا، طالباً الموت بحقنة قاتلة على أنغام موسيقى السيمفونية التاسعة لبيتهوفن.

كثيرون تستوقفهم الأرقام لا العبر، تشي لهم الحياة بقلة حيلتها وقصر عمرها، فيتوهون في فضاء العمر، ويمضون خلف خيط رفيع من سراب يائس، هم المحرومون من الحياة رغم حياتهم. أما الناجون من شركها هم الذين يقودون الوجود عند انعطاف دقات الزمن، حتى الموت بامكانهم اعادة تشكيله كلوحة سريالية استثنائية الأبعاد.
الحياة ثقافة فاتنا الكثير من عمق فلسفتها، فقد اعتدنا أن نتلقى السائد والدارج منها لا أكثر، والموت غموض يرمي ظله علينا متى شاء دون إنذار مسبق فيذعرنا ذكره، و ندرة فقط يسعون اليه كتجربة لم تعلمهم اياها الحياة، والأكثر حيرة أولئك الذين يعيشون حياتهم كأنها متسع للموت.

كتاباتي

شيطان اسمه “الوطن”

عرّف ميثاق محكمة نورمبرغ العسكرية الدولية جرائم الحرب أنها انتهاكات قوانين الحرب وأعرافها. ويشمل ذلك قتل المدنيين في أرض محتلة أو إساءة معاملتهم أو إبعادهم، إضافة إلى قتل أسرى الحرب أو إساءة معاملتهم، وقتل الرهائن، وسلب الملكية الخاصة، والتدمير غير الضروري عسكرياً. كان ذلك عام ١٩٤٥، ثم تبنّت هيئة الأمم المتحدة، التعريف ذاته لجرائم الحرب عام ١٩٤٦، أي قبل عامين من تاريخ ولادة السرطان الإسرائيلي ونكبة فلسطين. ومع ذلك تشهد المأساة، ومراقد الشهداء ودموع الأمهات المفجوعات كل يوم كيف يجري شقّ رفات الإنسانية قبل القوانين في أرض فلسطين المحتلة، وكأنّ تلك المعاني والنصوص لا تشمل شعباً جُرِّدَ من حقِّه في العيش بسلام على أرضه، وأصبح وجوده على امتداد سنوات النكبة عبئاً تحتار الأنظمة العربية كيف تتهاون في حقه في سبيل مصالحها، لينمو في المقابل الكيان الصهيوني السام في تربة خصَّبها التهاون العربي المهين، حيث صوت العروبة متأرجحٌ بين الصمت أو الاستنكار بعبارات أكثر خذلاناً من الصمت نفسه.

قديماً، كانت صور الحرب وفظائعها نادرة، وكانت الكاميرا تتصيد بفعل بالمصادفة لحظة تعجز عن حملها عين المصور وحدها، فتوثقها الصورة لتحيا اللحظة وتجمع فيها ما تبقى من ألم في معانيها، وقتها، كان يكرم المصور الذي عاش الحرب كما يكرم الجندي المحارب، فهو أصيب في ذاكرته اصابة لا شفاء منها. وتقديراً للذكرى طُبِعت كثير من الكتب التي تستعرض صور الحرب في أغلب مدن العالم، وكثيراً ما حملتها جدران المتحاف. أما اليوم، أصبح الموت صورة عابرة يكررها الإعلام كل يوم عشرات المرات.

قبل سنوات زار جارنا قريته في فلسطين بعد ستين عاماً من تهجيره، قد لا يكون غريباً أن يتأخر أحدهم عن العودة ستين عاماً إلى موطنه، الغريب، أنه قصد منزل شقيقته في إحدى قرى نابلس، دون أن يسأل أحد عن مقصده، قادته ذاكرته إلى حيّه، مشى شوارع تجاوز عمرها الستة عقود في ذاكرة رجل في الثمانين، الذاكرة الفلسطينية أسطورة كأبنائها، سبعون عاماً من النكبة، وما لحقها من نكبات، لم تهزم إصرار شعب، فلا وقت لغير الكرامة؛ آخر ما تبقى من كرامة عروبتنا.

ثمة شيطان اسمه “الوطن” يعيش فيهم، يمتص الخنوع ويعيد وسواس بقائه أولوية حياتهم وسبب وجودهم، يهربون من شرك الخذلان ببطولات تقصف الخوف، لم يبق لهم سوى ذات حُرَّة، تدفن موتاها في عتمة الحزن، وتمد يدها لتوسد أحلامها على ظلال الشمس وتنتفض ضد القهر ببنادق من أجسادٍ أنهكتها ذنوب لم تقترفها. قوتها إيمانها الذي يرهب عدوها، وهو ما اعترف به أحد حاخامات إسرائيل كما ورد في كتاب عن “نشأة الصهيونية” حين قال: “إن القوة الروحية التي يبثها الإيمان في نفوس المؤمنين، تبعث فيهم الجرأة على الوقوف في وجهنا”. ورغم الحصار المأساة، فإن الفلسطيني يحيا بين دفتي الأمل والذكريات، فهذه الأرض القادرة على ولادة الأبطال وشحن الذاكرة بتفاصيلها ستنجو بذاتها وبأبنائها ذات يوم.

كتاباتي

ظلال الوطن

كثيرون الذين يحركون الذكريات الراكدة في قاع العمر العكر، ويتصيدون هفوات القدر لتضاف إلى لائحة آلامهم، ويهيمون في شكوك فرضت نفسها عليهم في عصر غريب يتناقض فيه الانسان ووجوده على أرض ينتمي لها، أولئك العالقون في غربتهم بين الأوطان وأشباهها.

من مفارقات الغربة أنها تطرح أسئلتها المرهقة وتستجوب أبناءها عند كل ذكرى، تعيد لهم الوطن؛ صورةً ملحةً على هيئة حنين، ثم تغادر الذكرى كالسراب، حتى تعود ثانية، لتنتفض في الأذهان بمكر، وتغدو لعبة الأسئلة والشك ملهاة لا تنتهي.

ذات يوم همست لي سيدة سورية غادرت بلادها منذ سنوات، بأن كل ما تبقى لها من وطنها، خزانة أدراج خشبية يدوية الصنع، أصرت على نقلها معها حين غادرت حتى يبقى لها في منزلها الجديد أثر يرمز لوطنها، وحين بدأت الحرب أصبحت خزانة الأدراج، تمثالاً ترى فيه ما غفلت عن رؤيته حين كانت زيارة الوطن في متناول قرارها لكن انشغالاتها الكثيرة منعتها، وحين طال القصف مدينة تدمر، تعجبت كيف لم يتسن لها يوماً قطع المسافة من دمشق لتزور تدمر، بينما يحثها أرق الغربة اليوم على قطع المدن والبحار لتراها ولو مرة واحدة، بعد أن تصحو من ركامها. وليس ذلك بالغريب علينا فنحن اعتدنا أن تفقد الأشياء الممكنة أهميتها ثم تغدو على رأس أولوياتنا حين تغدو مستحيلة.

أصبحت الغربة كغيرها من المفاهيم تنتمي إلى مدارس ونظريات ككل شيء في حياتنا، وأضحت قابلة للتأويل وخاضعة للجدال، هناك من يقدمون أنفسهم أدلة على قدرة الانسان على بناء حياته من جديد بعيداً عن ترسبات وطن لم ينصفهم، ويعززون ثقتهم بألق الغربة وفرصها، مستعينين بنجاحات علماء وأدباء عرب وجدوا في غربتهم تربة صالحة لجهودهم ويجزمون بأن بقاءهم في أوطانهم ما كان ليعود عليهم بالنجاح والتقدير الذي وجدوه في بلاد استقبلت ابداعهم بأحضانها، وثرواتها وإمكاناتها. يتبعون بذلك قول أدونيس“كل سلطة لا يستطيع الإنسان في ظلها أن يبدع ويرفض بحرية انما هي عار الانسان وعار التاريخ”. وآخرون يغنون الوطن وينشدون الحنين كل صباح، فاتحين أذرعهم لذكراه ورائحته، يعيشون الوطن بتفاصيله على أرض غريبة، يتأملون من شرفة انتمائهم قول فكتور هوغو “كل صخرة هي حرف وكل بحيرة هي عبارة وكل مدينة هي وقفة، فوق كل مقطع وفوق كل صفحة لي هناك دائما شيء من ظلال السحب أو زبد البحر”.

رغم ما يحمله الوطن وغربته من تناقضات يبقى حالة نابضة تعيش فينا في بعده وقربه، وعلينا أن نقر بأن ما يتحمله الوطن من أزمات تجعله رقعة أرض غير ثابتة، ما الذي يمنعنا من زيارة مدننا تكريماً لوجودها وتاريخها ان أمكن، قبل أن تتحول أمنياتنا نحو زيارة خاطفة الى لحظة قد لا تعود، فالغربة ان كانت قسراً أو اختياراً، تحمّلنا طيف الوطن كظل دائم فمن كان باستطاعته زيارة مدن وقرى وطنه فليفعل، حتى لا تنطوي الرغبة طي منديل يرشح منه الندم، فاليوم حقيقة والغد وهم لا نملك فيه سوى الأمل.